\”بعد مشوار تلوح نهايته في الأفق. نفضت بعض تراب السكة العالق في ثوبي. فتطايرت ذراته كلمات مبعثرة. لملمتها وأودعتها هذه المجموعة\”، من هذا المقطع الذي اختارته الكاتبة عفاف طبالة للمقدمة وأيضًا للغلاف الخلفي لمجموعتها القصصية \”تراب السكة\” الصادرة عن دار نهضة مصر، يمكنكم الدخول إلى عالمها في القص والحكي بانجذاب لا يضاهيه سوى لسعة من الحنين الذي يغالب الكلمات والصور من قصة إلى أخرى، وربما تجدون أنفسكم عالقين في نقطة ما على الخط الرفيع بين الحقيقة والخيال. مسارب الحنين في \”تراب السكة\”، هذا العنوان اللافت إلى درجة الوجع في المجموعة القصصية الأولى لكاتبتها بعد عدة كتب وإصدارات للأطفال حملتها أرفف المكتبة العربية؛ كما حملت صاحبتها عنها جوائز عدة، مسارب الحنين تسلك نفسها بنفسها من قصة إلى أخرى كما لو كانت مسامرة ومناجاة للغائبين تغلفها رومانسية لا تقطعها قسوة الواقع وطغيان أزماته كما نشعر بها مباشرة حينًا أو موارة أحيانًا خلف السطور.
هذه الرومانسية لا تحتاج تعريف، لأنها مُفصلة في حكي عفاف طبالة على مقاييس زمن الأبيض والأسود في تدرجه المتمهل إلى الألوان، وكما الحنين يتدفق من ذاكرتها؛ خزانتها التي فتحتها وأخرجت منها الكلمات والصور والأمكنة، فإن الزمن يطل خلف كل جملة في مجموعتها القصصية ويشير إلى الذكريات والأحاسيس ويستدير ليخرج من غباره ومن تراب \”السكة\” الزمنية، من مرحلة إلى أخرى، و\”السكة\” الجغرافية من مكان إلى آخر، نَبْت الحكايات وثمارها.
اثنتا عشر قصة موزعة على تقاسيم أربعة هي أبجدية خاصة للكاتبة شكلًا ومضمونًا، تضبط خلالها إيقاع الكتابة وفق تهجئتها لمفردات الأحداث ونسقها التسلسلي لوقائع حياة ممتدة، مع رهافتها في التقاط التفاصيل التي قد تبدو عادية للعابرين وغير المبالين؛ لكنها بالنسبة لها كالحلم الخاطف الذي يحمل صوت \”الأنا\” للحكاءة، وصوت الآخر المحكي عنه، وقد يكون هذا الآخر هو الأب أو الحبيب أو البحر أو الجارة المفجوعة في قصة حبها أو المجتمع الاستحواذي المحشو بسلبياته أو اللاشيء، أو مجرد التحديق في الحياة كأنها لوحة زيتية مركبة. وكما عنوان المجموعة مستلهم من روح شفافة عاشت حياة طاغية حتى تملكتها الرغبة في التحرر من قيد الذكرى إلى الكتابة المنثورة على ورق حمل أطياف الماضي بقبضة دافئة، هذا التعاطي بين الغوص والتأمل يطالعنا منذ بداية المجموعة وفي تقسيمها الأول الذي احتوى قصتين: \”صورة 48\” و\”البدلة الكاكي\”، قصتان هما سطر البداية والرغبة في اللعب الدرامي خطوة. خطوة، ولتكن الخطوة الأولى بقدم طفلة تحكي ببراءة لحظات مفعمة في حياتها وسط أسرتها التي غاب عنها الأب، تحكي ببساطة كعمرها الصغير أو كبالها الطويل وخيالها الخصب: \” أما أنا، فكلما شعرتُ بالحنين إليه تسللت لحجرته، أفتح دولاب ملابسه وأجلس أمامه لأستنشق ما تحمله بِدَلُه من بعض رائحته\”، تسرد على طريقة الحواديت أو الأفلام القديمة، وتتصيد التفاصيل الحميمة التي تناسب عمرها واشتياقها للأب الغائب، هو ذاته الأب في \”البدلة الكاكي\” الذي يتوسط أسرته موزعًا بين قيمه كضابط في الجيش يتغير مساره بخروجه من الخدمة العسكرية، بعد الأوضاع الجديدة التي تمر بها البلاد، وبين حضوره كأب وزوج داخل إطار اجتماعي منشغل بإشارات التغير في الواقع.
هذا الواقع الذي يشكل صخرة تتحطم عليها الأحلام كما في قصة \”أحلام الأيام المريضة\” التي تباشر بها الكاتبة القسم الثاني من مجموعتها، هنا يبرز صراع آخر مع الزمن الذي لم يمنح المرأة الشابة فرصة لتحقيق أحلامها منذ طفولتها التي حرمت فيها من امتلاك آلة كمان لتحقق حلمها في أن تصبح عازفة، وحتى شغفها بالشعر تحول إلى \”قصاصات الورق المدون عليها بعض أشعار لم تعرف للنشر طريقًا\”، حياتها مجموعة من الأحلام المهدورة كما زوجها الذي فقد حلمه أن يكون \”قبطان سفينة تجوب البحار\” أو\”تصميم غواصة لها خواص لم يتوصل إليها أحد من قبل\”، وصارت السفينة والكمان مجرد نموذجين لخيبة الأحلام المركونة على رفوف مكتبة في بيتهما، بينما يمارس المجتمع سحق أحلامها لدرجة الانتهاك الجسدي.
الجسد هو موضوع قصة\”السر المدفون\” وهو سر البطل العاجز الذي يداري عجزه بالانزواء والاختصار في الكلام إذا لزم هذا الكلام في الأساس، وهو ما فرضه على زوجته المسكينة شحيحة الجمال المال والعلم والعزوة: اتخذ كل الاحتياطات حتى يضمن أنها لن تثرثر أو تلمح بسره لأحد.أحاطها بسياج خبيث خفي يعزلها برفق عن الآخرين. تنقل من مسكن للآخر حتى لا يسمح لها بتكوين صداقات حميمة مع الجيران تغري بالثرثرة والبوح بالأسرار والهموم\”.
أسرار وهموم خفية نجدها كذلك في قصة \”الكلب\”، والراوي هنا هو رجل يحكي عن \”توتا\” جارة عائلته منذ أن كانوا يقطنون الاسكندرية وكيف تحول سلوكها وهو الذي كان يأنس لعطفها وحنانها في طفولته، لتصبح شخصية مثيرة للجدل والعراك؛ الراوي هو أيضًا محبط في حلمه ولكنه يحاول أن يتجاوز الإحباط إلى فعل ينفذ به حريته: \” سأشتري بنصيبي منها ما تبقى مني ومن حريتي\”، أما توتا التي عرف طوال عمره أنها فقدت إحدى عينيها بسبب حادث هجومي لكلب، فقد اكتشف أنها عينها التي ضاعت كانت بسبب ضربة من أبيها وأخيها لأنها أحبت شابًا من ديانة مختلفة، فما كان من\”توتا\” إلا أنعاقبت الأب والأسرة كلها بتصرفاتها الشرسة، وهي التي لم تستطع أن تفلت من أحداث الماضي، وفضلت أن تكون أسيرته وأسيرة جدران شقتها وشرفة شقة الجيران التي قررت أن تشتريها لترى من خلالها البحر الذي حمل حبيبها إلى بلاد الغربة.
الغربة تتماوج بشكل أو بآخر مع شخوص المجموعة التي تنتمي في أغلبها إلى الطبقة الوسطى بأمالها وخيباتها وتنوعها حسب تنوع المجتمع ذاته وتقلباته، وهو ما نهجته المؤلفة على خط مستقيم من الطفولة إلى الشباب إلى الكهولة وحتى النهاية، مارة بكل بأحاسيس نفسية متباينة: حميمية وأمل وخوف ورتابة وملل ووحدة، وهي أحاسيس تصاعدت بأشكال مختلفة في قصص القسم الثالث من المجموعة: \”الاغتسال في البحر\” و\”المصير\” و\”سمكة على الشط\” و\”الحِمْل\”، وتتابعت حتى قصتي القسم الرابع: \”سور النسيان\” و\”تراب السكة\”، حيث نجد في القصة الأخيرة الأم والأرملة التي تعيش في عزلة ووحشة، بعيدًا عن ابن شغلته ظروف عمله وأبعدته زوجة استحواذيةأ ولم يتبق لها سوى ثرثرة سوسن الجارة وإطلالة من حين لآخر من خادمتها القديمة لواحظ، وتكون نهايتها هي الموت على \”تراب السكة\”، نهاية حتمتها طريقة السرد التي تسحبك طوعًا إلى دراماتيكية المشهد التي صاغته المؤلفة بذهني تختصر مشوار يعبر الزمن ويتأمله، كأنها أرادات أن تقول: الحياة هنا حقيقة، وكل قصة أكملت مهمتها وكل نهاية مفتوحة على الفضول والسؤال: ترى ماذا يحدث بعد؟ إلا \”تراب السكة\” هي النهاية الخاتمة التي لا بَعْد لها.