(1)
تطل من شرفة بيتهم القديم على الأهل والجيران وهم يحملون الحواديت والروايات وإرث ثقيل من التقاليد، تطل على الأشجار والوجوه المتعبة ولا شيء يتغير.. نساء يتشمسن وهن مغروسات في الطين وعيالهن يتشبثون بطرف جلابيبهن ورجال حفاة يغوصون في هذا الطين، حتى تلك الطفلة الصغيرة التي تهرب من خوفها ومن نفسها وتعاند الريح؛ تتلفت شرقاً وغرباً قبل أن تخبيء أحلامها تحت جذع الكافور، لعلها تكبر معه وتتفرع وتعلو بمفرداتها من سابع أرض إلى سابع سماء، والمد والجزر بين جسدها وبين الشجر لا يخبرها بما تريده أو تأمله أو ما ستطحنه الأيام المقبلة.
(2)
صغيرات يرفون نهاراً وليلاً في الشوارع، بعضهن يستقر بهن الحال على الأرصفة خلف بضعة أكياس من المناديل الورقية وكتاب مدرسي وقلم \”تُشخبطن\” به على أوراقه في شقوق الإضاءة الخافتة، في المعادي كما الزمالك كما مدينة نصر كما المهندسين كما شبرا كما امبابة كما شارع قصر النيل في وسط العاصمة الهادرة، تتعدد الأرصفة والمشهد واحد تنسج فيه الصغيرات بإبرة الأمل معاطفاً للأمان، بينما هناك في الريف البعيد أب يفتح رأس ابنته الصبية لأنها تجرأت وتكلمت مع زميلها، وفي قلب القاهرة أب آخر كاد أن يقطع شرايين ابنته لأنها فعلت نفس الفعل وتحدثت إلى زميلها وغامرت قليلاً ومشت معه على الأرصفة.
(3)
صباحي لم يكن على مايرام، ولا أعرف لماذا إنزعجت من ذلك، ربما لأنه لم يحدث جديد أم لأني صحوت متأثرة بكل أوجاع صباحاتي السابقة.. علي أي الأحوال خرجت وأنا أُمني نفسي بأنه قد يحدث ما يغير حالي فيما أردد مع محمد منير \”إمتى أغني وأعيش\”، حتى وجدتها أمامي فابتسمت، وسألت الطفلة الجميلة ـ ابنة جيراننا ـ وقد فاجئتني حين بدت في الصباح الباكر في مدخل العمارة منهمكة،وهي تجلس علي السلم، بالرسم. فردت أوراقها علي ركبتها الصغيرة وانشغلت بخطوط قلمها، سألتها إن كانت تتسلي بالرسم فيما تنتظر \”باص\” المدرسة ؟.. أجابتني: \”مش بتسلى، أنا بضيع وقت لغاية ما ييجي الباص\”. استوقفني ردها، فتمهلت أمام نور ابنة الثامنة، اتأمل قامتها النحيلة وأصابعها الصغيرة الرقيقة وهي تواصل الرسم، ووجدتني أقول لها بلهجة متسائلة: لكن انت بتتسلي بالرسم لغاية ماييجي الباص.. مش كدة ؟. قلت الجملة وأنا أتابع طريقي كما لو كنت انتهيت للتو من تلقين الصغيرة درساً في فهم معنى الوقت، ومعنى استخدامه، ومعنى الاستفادة منه . فتوقفت مرة أخرى حين ردت بصوت عالي أرادته واضحاً:\” قلت لك مش بتسلي.. مفيش حاجة في الحياة أصلاً تسلي\” ثم مدت يدها وأعطتني الورقة التي كانت ترسم فيها وقالت:\” كنت بارسم وطن جديد\”.
(4)
أمسكت الصغيرة بطرف دلاية السلسلة التي أرتديها، الدلاية هي حفر لخارطة فلسطين قالت الصغيرة: فلسطين جنة ولا نار، نظرت إليها وقلت: إنت شايفة أيه؟ إنتظرت قليلاً ثم قالت بعفوية : الإثنين، جنة ونار. ثم ركضت وابتعدت وتركتني في حيرتي وصمتي، بينما قال لي المناضل الفلسطيني (كان يتابع المشهد عن قرب) : المصريين أكتر شعب لسة عارف عدوه الحقيقي، سنة بعد سنة وجيل وراء جيل وتظل اسرائيل هي العدو. يا أختي شو ها الوعي، عندها حق إسرائيل أن تخافكم أكثر… !!
(5)
تشتبك الصور في مخيلتي، ويتسلل صوت سعاد حسني من الطفولة : \”البنت زي الولد .. ما هيش كمالة عدد\”، يقطعه صوت محمد منير ويعلو:
فى بلدى البنات كل البنات
تحلم تضوى زي النجوم
بتحلم ترفرف زي الرايات
بتقدر تعاند وتقدر تثور
لكن ساعات كتير من الساعات
دق الساعات بيجرح حاجات
ويخنق حاجات…