الأرض أوسع من كرويتها وهناك دائماً شرفات للهروب من حصار اللغة، أعيد تكرار هذه الجملة وأُعد حقيبة سفري قبيل رحلتي القصيرة إلى اسطنبول فيما أكاد أنفجر من الضحك والغيظ معاً، وهذه معادلة كما تعلمون مصرية بامتياز، حين شاهدت مقطع الفيديو الذي نشره حزب النور يُخفي وجه الإعلامية منى سلمان أثناء حوارها مع نادر بكار المتحدث الإعلامي للحزب على اعتبار أن وجه المرأة عورة وعملها أيضاً كارثة ولابد من إزاحتها وتكويمها في البيت، وبصرف النظر عن نضالية منى سلمان كإعلامية تنحت في الصخر وتشق لنفسها درباً يحميها من الانهيار أو الانسياق وراء إعلام اللحظة الذي يبني قلاعه على الرمال، وبصرف النظر أيضاً عن كونها أم تُثابر في تربية بناتها وتعلمهن أن المرأة ليست وتراً مكسوراً ولا ظهراً محنياً، فإن المرأة لم تزل في حربها ليس ضد التيارات السلفية فقط وإنما المجتمع الذكوري بأكمله الذي لا يعيرها الانتباه الكافي ويحجل أحياناً بأهمية المرأة ودورها في بناء البلاد وناسها، ما يجعل الصورة سريالية ومثيرة للسخرية.
مثلما يفعل السائر على حبل، كنت أُحاذر التأرجح والسقوط في بداية الرحلة، يأتيني خبر رحيل الكاتب الكردي/ التركي الشهير يشار كمال الذي حمل على ظهره جراب الحكايات التي لا تعانق جذوره الكردية كما هو ذاته عانق ميلاد الجمهورية التركية، ترافقني فتيات متفوقات في كلية الألسن يدرسن اللغة التركية ومعهن طالب واحد شاركهن منحة التفوق والتشبث بالحلم حين يعرفوا له سبيلاً، لعله كما قال صاحب نوبل 2006 الروائي المعروف أورهان باموق بأنه تتمثل كبرى فضائل اسطنبول في قدرة سكانها على رؤية المدينة بعيون غربية وعيون شرقية، فإن هذا ما طبقناه حرفياً في نظرتنا الكاشفة لمدينة فسيفسائية تستغرق بوضوح في نوبات الاهتزاز بين الشرقي والغربي، عالمان يمسان بأكتاف بعضهما ولا يلتقيان إلا فيما ندر.
أتجول صامتة في الشوارع المزدحمة وأحاول أن أتملص من القلق فأتأمل الحشود الغامضة التي تحتشد بجانبي ذهاباً وإياباً، فيرزقني الله بمظاهرة يتصدرها شابات يهتفن بكل قواهن، لم أدقق في سبب المظاهرة ولم أهتم، لكني رأيت الخطوة تصاهر الصوت وتنجو من الأسئلة الوجودية الفادحة، وإن لم يوصد بابا أسئلتي المُلّغمة فلم أعرف في أي سياق يمكنني أن أضع صورة هذه المرأة التي تجلس وحدها المطعم المفتوح على الشارع سوى أنها تأكل بدون رجل، كما هؤلاء السيدات الخمس الأنيقات يأكلن أيضاً وحدهن بدون رفقة رجل أو عاطفة تحترق، يروقني هذا الهدؤ المُلتبس والتواطؤ بين الحرية والجمال، ولعل هذا ما التقطه الشاعر أحمد الشهاوي في حفل توقيع ديوانه المترجم إلى التركية والذي تصادف مع اليوم العالمي للمرأة وحضره جمهور من النساء كأنهن خرجن من الأجواء المخملية للمسلسلات التركية لكنهن أفلحن في التقاط مفردات الشعر والاصغاء إليه، وبعد قليل اعترفن بنقصان في الحب مرئي وسري معاً، في المقابل تدنو مني المراهقة الصغيرة في معرض اسطنبول (المحلي) للكتاب وتسألني عن كتابي الذي وضعته بين روايات فيرجينيا وولف وروايات نجيب محفوظ وسألتني: هل يحكي كتابك عن العشق والحب أم عن الحرية؟ ثم أردفت: هل المرأة فيه كما عند نجيب محفوظ خليعة أو ضعيفة؟، وحين هممت أن أجيبها عن ملحوظة تصورت أنها أكبر من عمرها؛ بادرتني هي: أتمنى أن يكون كتابك عن الاثنين، الحب والحرية.
كان محرك المركب التي تقلنا في جولة البسفور يصدر ضجيجاً قوياً حين سألني مرشداً سياحياً يرافق مجموعة من السائحين النمساويين: من أي البلاد أتيت؟، ولما أجبته: مصر، أغمض عينيه كأنه يُنشط عواطفه، ثم قال بصوت فخيم: أم كلثوم.