ناهد صلاح تكتب: الحتة الناقصة.. تقاسيم نهاوند

(0)

ومن الحب ما قتل، أول قصة حب على الأرض كان نتاجها القتل. الحب قرين القتل، حتى لو كان الموت عشقاً.

(1)

المغنواتي.. \”حسن ونعيمة دخلوا السيما\”

قال لي: حسن المغنواتي وهم. إنه ليس صاحب هذا الحب الوحشي الذي تغنت به المواويل ورقصت خيالاته على الشاشات.

وقبل أن أنفض عن رئتي دخان الصدمة وأزفر بقوة، توقفت في حلقي أغنية من أغنيات الطفولة:\” حسن ونعيمة دخلوا السيما.. غني يا حسن .. ارقصي يا نعيمة\”، نشيد السخرية والمعايرة في قريتي الصغيرة، حيث الحب محظور والعشق خطيئة.

ولما حاولت أن أفر وأهرب، صرخ صوته اليابس: كروان المنيا الذي أحصت له بنات قبلي وبحري النجوم والكواكب، حسن كان يستحق الذبح. لأنه كان \”فلاتي\”، صياد، مفتون بنفسه .. متباه، حتى أن غريمه عطوة كان أحلى منه وصوته أجمل. حسن كان الكذبة الكبرى، خرج من كل فرح أحياه مصطحباً امرأة يمنحها لذة عابرة، أما نعيمة فكانت \”الهبلة\” التي فتنها \”الديب السحراوي\” وسلمت له روحها.

صوت محمد طه يعلو:

لكين الهوى لو هوى في بحر ونعيمة

الحب خلى الغزالة اتعلقت بالنمس

وفاتت الأهل وراحت له بني والنمس

حسك تلوم المبالي تبتلى بالنمس

(2)

سي عبده.. \”ياللي تروم الوصال وتحسبه ساهل\”

قال لها: \”يا بنت. لا وقت للمناهدة، لا متسع للمجادلة. تعال معي نفك الرموز ونصبح أنا وأنت الأبدية\”.

تأرجحت ألمظ بين بلاغة الكلمات وخفة القلب، ثم استجابت لنداء عبده الحامولي، وليس على الحب من حرج، وراحت تترجل عن نجمتها ليكون \”سي عبده\” هو سيد سماءها. تسكن حضنه في سكينة، سكينة هو اسمها الأول الذي أرشدها إلى المستحيل، والسيدة سكينة هو اسم الحي حيث كانت تقطن \”الست ساكنة\” العالمة \”الصييتة\” التي حولت سكينة من امرأة تحمل قصعة المونة وتغني للعمال، إلى المطربة ألمظ صاحبة الصوت الألماظ.

والفتى عبده الحامولي، فلاح لم يرث من أهله سوى اسمه، ولم تمنحه الدنيا سوى فرصة أن يتعلم الموسيقى والغناء، صوته رسالته، خطف به قلب وعقل الخديوى اسماعيل، وهو شيء من تدابير المولى. يسافر الأستانة و تولع روحه بالموسيقى التركية، ثم يعود ليمشي على خطواته هو بموسيقى مصرية.

لكن ألمظ تتسلل إلى القمة على مهل، فيحاصرها عبده بالأسطورة، وهي الكمنجة التي ربت له القلق. قاتلته التي أراد أن يشربها في كأس واحدة، يخوض معها حرب العواطف الشريفة، تغني له ألمظ:

ياللي تروم الوصال وتحسبه ساهل

دا شيء صعب المنال وبعيد

يرد عليها عبده:

روحي وروحك حبايب

من قبل دا العالم.. والله

ويتزوجها، ثم تموت ألمظ وتتبخر كغيمة زرقاء، ويكتمل حضور عبده بغيابها، الأفق يكون فسيحاً أكثر للغناء، يغني .. يتسلطن في حزنه، فيبك ومعه جمهوره وناسه يبكون. الموت يعانق الحياة وتعيش الأسطورة أطول.

(3)

عزيزة ويونس.. \”وده حب إيه ده، اللى من غير أى حرية

قالت السيرة إن عزيزة بنت سلطان تونس أحبت الفتى يونس ع السيرة.. سمعت روايات عن حسنه وقوته وشجاعته من جاريتها الهلالية تتباهى وتتحاكى عن ابن قبيلتها، اشتعل قلبها وأصابتها حمى الحب ورعشته، فلم تعد تعرف رأسها من رجليها، وقالت:\” هو لي\”، خطفوا الفتى وأودعوه قصرها المنيف سبع سنين تعرض عليه حبها وهو يقول لها: لا حب بدون حرية.

ياعزيزة يابنت السلطان لو يتغير الزمان

وقابلتينى فى أى مكان كنت أعشق من غير ما تقولي

يا جبروت الفتى أمام عزيزة، بنت من نار وأميرة كما خلقتها الأساطير والشهوات، يرفض حبها ويشترط حريته مقابل قراره، وبنت السلطان أكثر جموحاً في الحب، لا تيأس من استدراج الفتى العاصف بروحها.

ابن بني هلال.. ابن التغريبة والتيه، آت من رحلة الهوان، حب أمامه وجدران ترجم حريته وتحاصره، في البدء عجز وغربة وضياع مع أهله في دروب بلا رحمة، ثم قيده وقلة حيلته في قصر بنت السلطان.

جى م البلاد البعيدة

لا زاد ولا ميه وغربتى صحبتى بتحوم حواليا

النظر كله على عزيزة، وبنت السلطان قلبها مكسور، يقولوا لها \”السماح\” وهي مجروحة لا ترد. من فيهما الأسير، يونس الذي لم يسمح بأن يخمش أحداً حريته حتى ولو حب جارف، أم عزيزة التي فقدت سلطانها على أعتاب قلب ضعيف؟.. هل ذنبها أنها أحبت يونس أم أنها بنت السلطان؟

(4)

يا صبر ناعسة.. \”اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب\”

يقول لها: اصبري. ترد: حاضر يا نبي.

أيوب في التوراة والقرآن نبي، وفي الحواديت والمواويل هو الصبر ذاته، ويقولوا لك: يا صبر أيوب، وينسى الجميع ناعسة وصبر ناعسة.

الحلوة يحسدونها: شعرك طويل وعيالك كتير وزوجك غني وكريم ونبي، وهي تحاول أن تتحاشى الحسد ونظرات الضغينة، فتبتسم وتقول: آمنت بالله.

الرب يختبر عبده ونبيه، فينزع عنه المال والولد ويبتليه بالمرض، لم يبق عضواً في جسمه سليم سوى قلبه ولسانه يذكر الله.

الشيطان يوسوس لأهل حوران، بلدته، أن أيوب سقيم وأصابته لعنة، فيصغون للشيطان وينفضون عن أيوب ويطردونه خارج الحدود، تشاركه ناعسة رحلة الهوان بين ضفتي الاختبار السماوي والقهر الأرضي. ثمانية عشر عام ترعاه ولا تلتفت إلى نفور الناس ولا للوجع، هي ظهره القوي وعنوانه الرئيس في فهرس الصبر. نهار وراء نهار يمر وهي تقول: ربما يكون هذا النهار أخف علينا من الأمس. لا تطيل المكوث أمام المصيبة، تسعى وراء عمل يساعدهما على العيش واحتمال البلاء، والتجربة تعلمها أن الصورة زائفة وأنه لا غال ولا عزيز سوى إيمانها بالله، فتوافق على مساومة أهل البلدة على قص شعرها وبيعه لهم مقابل رغيفين والخدمة في البيوت، لم تحمل ناعسة الشكوى على ظهرها وارتضت أن تكون في ظل أيوب الزوج والنبي.

(اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب) قال الله تعالى لأيوب لما طال المطال، ولما نطق أيوب نفسه: (إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين)، يغتسل أيوب من نبع ويشرب من النبع الآخر، نبعان تفجرا بضربة رجله كما أمر ربه، فذهب كل ما في بدنه من مرض وأعاد له ماله، أما ناعسة التي نزلت النبع اغتسلت هي الأخرى وشربت استعادت شبابها وعافيتها وعوضها الله بأولاد آخرين، صبرها كان مفتاحها للملحمة المشتهاة.

(5)

زبيدة ومينو.. “Cherchez La Zebeid”

ويقول الجبرتي: عدى الهوى هنا وميل، ومينو أصبح عبدالله واصطاد الرشيدية. وزبيدة صبية أو أربعينية ذات الحسن والجمال تتزوج الجنرال الأصلع.

تبكي: دي بلدنا وبحرنا وأرضنا وشجرنا وحجرنا، إزاي يعني يمشي قدامي وأمشي أنا في ظله. يرد أبوها شيخ الأعيان: يا بنتي، نسب يزيد النفوذ، وبعدين ده أسلم، تجاوبه: في الأزهر الشريف، ده شرطي.

نساء رشيد وبناتها رموا الغُزْ الانجليزي بالماء والزيت يغلي، وزبيدة مجبرة تزوجت ساري عسكر جند مصر من بعد نابليون. لا شيء حال بينها وبين سهم النصيب الذي أصاب الغزالة، فأصرعها في بلاد أنجبتها، والنصيب لا يرد. يظل لها من الهواء حصة ولها من الأولاد سليمان ابن نصيبها، على اسم قاتل غريمه كليبر أسماه والده عبدالله جاك مينو.

ويقولوا: أهل رشيد كما أهل المنصورة حلوين وملونين لأن الغازي مر من هنا، قول لهم: لأ.. عشان طينتهم مصرية. ويسألوا: فين راحت زبيدة بعد موت مينو؟.. تاريخ يقول: في فرنسا باتت وماتت، وتاريخ يقول: مصر لم تفارق، والله أعلم.

(6)                                   

زليخة ويوسف.. \” نحن نقص عليك أحسن القصص\”

قال الرب: إن يوسف أحسن القصص، أسطورة تعيش للأبد.

وأنا قلت: آمنت بالحرف وبالغواية والعفة، وبمكر النساء وكيدهن وبالنهايات السعيدة. أنا راعيل بنت رماييل وزليخة لقبي، رأيت يوسف الصبي وعشقته وما على العاشق من لوم ولا على الجمال من نجدة.

إحدى عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين، إخوته غاروا وثاروا ورموه في البئر واتهموا الذئب. هو يوسف الذي مال له الجمال نفسه ودار في دورته الأبدية، هو سيد نهاري وليلي، لمحت له وصرحت ومزقت كل أقنعة الحياء وغويته، أنا زليخة شاهدة عفته وشهيدة عشقه، من أجله شحذت سلاحي وخضت الحروب النفسية، فلم تصمد واحدة لامتني في الهوى، كلهن خسرن وانتصرت أنا ثم سجنت يوسف.

بقوة الرؤى والأحلام أصبح يوسف عزيز مصر وحارس خزائن الأرض، وأنا العزيزة المتقدمة أصبحت شاردة.. تائهة في فيض حبي له، بلا نور في العيون ولا وعد به. (سبحان من جعل الملوك عبيداً بالمعصية وجعل العبيد ملوكاً بالطاعة)، صرخت وعرفني يوسف في موكبه، فارتد إلي ربيعي وشبابي في سطرين، يناديني: تعال! هو المرئي والسري يتزوجني ويعيد لي إنسجامي، له مني الأولاد وامتداد الروح وقصة لكل غريب حالم.

(7)

شهرزاد.. \”مولااااااي\”

قال لها: شهرزاد، قالت: مولاي. ممطوطة ومنغمة بكل الدلال.

بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد أن شهرزاد كانت امرأة لعوب تجيد رقصة الغياب والحضور، في غمضة عين غيرت شهريار الحزين من لاه بالشراب والعذروات من الحريم إلى طفل يسبح في زبد الغيب والخيال.

بالحواديت والحكايات نسجت له الحبل وجلس عند قدميها يطيل التأمل في الحرف ويداعب روائح الخوخ والياسمين والبرتقال في الجسد الشهي. لم تتلعثم في سردها، فقط كانت تتلكأ شهرزاد في الحكي، ولم ينتبه شهريار إلى خلل معادلته في الاستغلال.

شهوتها للحياة ضربت كل الرهانات والبراهين، قليل من الإباحية والمجون لا يضر ولكنه سينشط دورة الإثارة لجائع شرس اصطادته بسنارة الكلمات واللذة، فصارت الجارية سيدة القصر ونجمة درب كل اليائسات. ولما أدرك شهرزاد الصباح تركت له الساحة براح، وشهريار الملك التعيس تارة يفكر لماذا لم يتجرعها دفعة واحدة كزجاجة كوكاكولا ويرميها كغيرها فارغة ثم ينتهي الأمر، وتارة يطوي ظله ويحصي كم كانت ستلد له من البنات والعيال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top