هل أتاك حديث الذكريات؟ حيث تصبح الكلمة والصورة شوكة في القلب توجعه دون مهل، وحيث نتقن جميعاً فنون الرثاء واستعادة النكبات والركض وراء سراب الصحارى في الأحلام، وترديد أغاني البكاء وإن بدت أشرعة نفردها ونحن أوفياء لضوء بعيد يراوغنا قبل أن يدلنا على مرفأ أمان، \”فذكر إنما أنت مذّكر\”.
أنساك ده كلام أنساك يا سلام؟! ذكريات حبي وحبك ما انسهاش.
صوت أم كلثوم هو مفتاح باب النفق الطويل الذي نسير فيه مكبلين، وفيه نغطس في زحام ذكرى تجنح نحو الخيال وصداه؛ نترجل في سلاسلنا ولا نعرف أن كنا بقايا قصص لا يجتهد حتى أحد للتعرف على تفاصيل الحكمة العظيمة فيها، هل صرنا منسيين؟
أهو ده اللي مش ممكن أبداً.
عظمة على عظمة يا ست؛ صوتك هادر وحضورك أسطوري ومعك يعلو الرست ومقامه، ونحن المتلهفون إلى لحظة كهذه متوحشة في جمالها ونادرة ترتفع بنا عن بؤس الحاضر وتعيننا على أن نرمم ولو بأضعف الإيمان شقوقاً في حياتنا، لعل وعسى يدركنا أمل جديد في التخلص من تجار الشنطة في السياسة والدين والإعلام والاقتصاد الذين سمموا علينا الهواء.
القاهرة، الساحرة، الساهرة
إزاي
بقت في لحظات كلها دخان ولهب ونيران
وصراخ وعذاب، وخراب، ودمار، بتاكلها النار
والنيران، صبحت رماد واللهب في قلوبنا قاد رغم السكون
كان الغضب بركان بيغلي في العيون كل العيون
وصحيت على ثورة بترج الدنيا؟
طبعاً، عبد الحليم حافظ كان هنا في هذه الأغنية يؤرخ لحال القاهرة ومصر كلها وقت الاحتلال البريطاني الذي تغير مع ثورة 23 يوليو في العام 1952 \”المجيدة\”، فيما نحن \”يشقلبنا\” الزمن و\”يتشقلب\” بنا منذ ثور 25 يناير في العام 1911 \”المقرصنة\”، ومازال في بلادنا: المواطن المهان والجوعان والخائف والمظلوم والمنصوب عليه، أما الخطب السياسية كلها فهي لا تغني ولا تسمن من جوع أو حق أو حرية، ميزتها الوحيد أنها تجعلني ألتزم أكثر بنظرية ديكارت في الشك وأكتفي بأن أردد مع وردة بحسرة:
ذكرياتي يا ذكرياتي أه يا انا منك يا ذكرياتي
(2)
صورة لحذاء طفلة ملطخ بالدماء من بقايا المجزرة التي ارتكبتها داعش في الكرادة بالعراق، فردة حذاء لا تساويها الرؤوس ولا قصص التاريخ ولا الأقلام التي هللت لحظة سقوط بغداد، تخايلني صورة أخرى لإعدام صدام حسين بينما يتسلقني الوجع؛ فلا تسقط أوراق الماضي ولا الحاضر يورق أملاً جديداً.
(3)
كالنسيم مرت هذا الأسبوع الذكرى لرحيل غسان كنفاني؛ غسان الذي زرع قمح الثورة في كل مكان لم يزل يوقظ لدي شهوة الكتابة كلما مرت صورته على بالي.
\”الناس ينقسمون إلى معترك، ومتفرج .. أما المتفرج فلسوف يعيش جيله كله، ويمتصه حتى آخره، أما المعترك، فسرعان ما سوف يسقط، فالمعركة قاسية، وقدرته الإنسانية لن تحتمل كثيراً، ولقد اخترت أنا، أيتها الصغيرة، ألا أكون متفرجا\”، هكذا كتب غسان كنفاني في إحدى رسائله مخاطباً الأثيرة إلى قلبه \”لميس\” ابنة أخته، وهو يعني أنه اختار أن يعيش اللحظات الحاسمة من تاريخ كله مِحن، مهما كانت هذه اللحظات قصيرة، اختار أن تكون فلسطين بالنسبة له هي الكتابة وهي الوطن وهي الخارطة التي تستحق أن يكون من أجلها معتركاً في قلب الحياة .
44 عاماً على رحيله المفجع في بيروت منذ اغتيل هو و\”لميس\” على يد الصهاينة في الثامن من يوليو 1972 بتفخيخ سيارته، ولما تأتي سيرته نتذكره أديباً وكاتباً وعاشقاً يشتهي نهاراً جديداً في بلاده، آااه غسان لماذا لم يدقوا جدران الخزان.
(4)
مرت سنة على رحيل عمر الشريف، ومازال هذا السؤال الرذيل يطاردني: أكلما مات نجم يصدر عنه كتاب؟ وهو السؤال الذي واجهني منذ صدر كتاب \”عمر الشريف .. بطل أيامنا الحلوة\”، ويبدو السؤال في ظاهره وباطنه مستفزاً لأي كاتب كأنه يحاكمه لأنه مارس فعل الكتابة، وقبل أن أنطق وأقول: ولما لا نكتب عن نجم من لحم ودم يصعب على الموت أن يطويه كورقة مهملة؟ أجدني أقول:وليكن.. كما لو كنت استعير بعض غموضه الذي كان يداعب خيالنا، فلابد لي أن أتوقف عند نقطة الشغف والفرح في عيون بنات جيلي حين كان يذكر اسم عمر الشريف وكل واحدة منهن كانت ترى فيه نموذجاً لفارس الأحلام، وسيماً ورومانسياً ولديه شامة حُسن تحت عينيه الساحرة، مواصفات الحبيب الذي يُحلق بحبيبته حتى سابع سماء كما وردت ملامحه وتفاصيله في الحواديت القديمة التي كانت ترويها الجدات والأمهات، وبصفة خاصة أمي التي لم تمل يوماً من أن تحكي قصة \”فاتن وعمر\” كواحدة من قصص الحب التاريخية، كنوع من الاحتياج المُلح لرومانسية في زمن يابس وصعب، ولذا قدمت إهداء الكتاب إلى أمي التي علمتني في الصغر أن عمر الشريف هو الرومانسي الأعظم، صحيح أنني أدركت حينما كبرت أن الأمر مختلف، لكني صدقت أمي، وصدقي ينجيني ويحميني في هذا الفراغ الفسيح.
(5)
منذ سنوات قليلة كنت قد سافرت إلى السودان في مهمة عمل الصحفية، وهناك تعرفت على بعض الشباب السوداني صغيري السن؛ كبيري الحماس المغموس ببعض الأسى، أحدهم ظل يجادلني في موقفه من مصر؛ كان غاضباً لدرجة الصراخ والرفض للرؤية المتعالية؛ حسب وصفه، من مصر تجاه السودان، تركته يحكي ويسترسل وإن كان لديه عناية خاصة بانتقائه لكلمات تطوّع وتطاوع مشاعره، حتى تغيرت ملامح وجهه فجأة وراح يردد أجزاء من خطاب جمال عبد الناصر الذي ألقاه في إستاد الخرطوم الرياضى بمناسبة يوم استقلال السودان:\” لقد جئت إليكم مرة أخرى على طريق النيل العظيم فى فترة حافلة من نضالنا حاسمة ومصيرية، جئت إليكم مرة أخرى على طريق النيل العظيم، ونحن على أبواب حقبة جديدة من الزمان\”، لم أستطع لحظتها أن أخفي دهشتي؛ لكني اليوم أتذكر هذه الواقعة وتقتحمني افريقيا التي أضاعها السادات وانسحب منها مبارك بالكامل، فيما كنت أتابع زيارة نتنياهو لاثيوبيا ووعوده لها بالتنمية والرخاء؛ وأتذكر أيضاً قصة رواها بهاء طاهر أنه حين كان موظفًا باليونسكو بالأمم المتحدة قام ضمن وفد تابع للمنظمة الدولية بزيارة لدولة كينيا، وفى إحدى القرى شاهد بهاء صورة جمال عبدالناصر معلقة على حائط أحد الدكاكين الصغيرة، فسأل صاحب الدكان عمن يكون صاحب هذه الصورة ، اندهش الرجل من السؤال فلم يكن يتوقع أن أحدًا فى العالم لا يعرف جمال عبدالناصر، ثم رد: إنه أبو إفريقيا، فعاد بهاء وسأله: من هو أبو إفريقيا فقال الرجل: وهل هناك غيره، إنه جمال عبدالناصر.
من يرد لنا لون الأرض وضوء القلب، من ينقذني من هذا الأنين الصارخ والرقة القاسية وأنا أقف على ضفاف النيل في القاهرة فيما يتسلل في الخلفية صوت العندليب:
النيل نجاشي
حليوة أسمر
..
أرغوله فى إيده
يسبّح لسيده
حياة بلدنا
يا رب ديمه