ا
لأخبار عن اليمن السعيد ومجلس الحرب في قمة شرم الشيخ العربية وتأرجح صورة \”حنظلة\” الفلسطيني يُدير لنا ظهره، كالعادة، بين الحضور والغياب لدرجة الطمس وصوت محمود الجندي في فيلم ناجي العلي: \”هي الجيوش العربية هتيجي إمتى؟\”، كل هذه التفاصيل نزعت الحكمة عن صباحي الذي يشتهي الصدى وينطفيء ولعه بقهوة الإفاقة، أضفوا إلى ذلك مشهد هذا العسكري البسيط بردائه الأسود البوليسي آراه من نافذتي المُشرعة على الشارع يقف دون ثبات بجسده اليابس، يُسيطر على ملامحه الغلبانة الخوف قبل الحذر والفقر قبل الرسمي فلا ينجو القلب من نصل خنجر الشفقة والفرار من العنف العولمي الذي يبتكر محاولات تسلله إلى النفوس قبل البيوت، على امتداد نظرته الزائغة فوق الرصيف المقابل تجلس سيدة متشحة بالسواد، تسند جذعها كاملاً على جدار قذر خلف \”فرشة\” الجرجير والخس والفجل والبصل الأخضر، لا يُغنيها ثراء اللغة في الوصف ولا يعنيها فضاء اللغة من الأساس ولا أعمدتها المشيدة التي تسند واقع مهتريء، أغض بصري عن المشهد برمته وأُدير له ظهري مثل حنظلة، فتصطدم عيناي بجملة \”المد الشيعي.. خطر يُهدد عالمنا العربي\” على شريط أخبار الشاشة التليفزيونية تحت صورة لاجتماع القمة، فأصرخ يا حسين ثم أفتح ملف الأغاني على تليفوني لينساب صوت سيد درويش:
يا ملتقى الصحبة.. يا لالالى
يا وردة فى الصحبة.. يا لالالى
يا منورين فى القعدة تماللى.. يا صحبجية.. إيه يا لالالى
ألا يحق لي أن أكون غريبة؛ فلا أمشي مثلهم على الرصيف المكسور وألا أحمل الطريق المحفوف بالحُفر على كتفي كَكُل الناس، اعتبرت هذه هي حكمتي الجديدة التي تُخلصني من ضجر هذا النهار الذي أُباشره بالسفر إلى الاسكندرية لأصنع عالمي المُوازي في مدينة المفروض أن البحر ينكسر فيها على روحين: التعددية والتسامح بما يُحقق التقاء الشكل والمضمون ويخلق جمال الثنائيات كما صانعها وناشئها الاسكندر ذاته الذي له نصيب من التعددية في تكوينه، فهو المقدوني البربري الذي تزوج من أميرتين فارسيتين (روكسانا) و(بارسينة) ورسم العالم وفق خارطته المشغولة بالتمازج الثقافي الذي خلفته فتوحاته والذي تماهت من خلاله الثقافة الاغريقية مع الثقافات الشرقية، وكما سمير صبري ابن الـ\”كوزموبوليتان\” والانفتاح على البحر والآخر، والذي ينتظرني في بهو محطة مصر ليكتمل إيقاع الحكمة حين نستقل القطار ونفوت كل الضجة.
يهمس سيد درويش:
يهجرنى قال ويقول معلهش.. أوري للناس إزاي وشي
أسافر مع سمير صبري صوْب الشمال لنحضر ندوة يحكي فيها عن مشواره الفني وأحكي فيها عن كتابي \”حكايتي مع السينما\” ضمن برنامج معرض مكتبة الاسكندرية الدولي للكتاب، نمشي سوياً هو لا يتخل عن ذكرياته وأنا لا أُفرط في عاطفتي فأسير وراء إشاراته كما يفعل السائح الأجنبي؛ هنا مدينتي تفتح ألف شباك على البحر، يقول ثم يقودني إلى ميدان محطة الرمل، كان مربعنا الذهبى، البيت الكبير، بيت جدي المكون من ثلاث طوابق كان في هذا الاتجاه ، ومنه كنت أتحرك مع عائلتي من السينما إلى المسرح أو العكس، وبهذه الجولات المكوكية التي كنت أتعجلها في نهاية الأسبوع كان لا يُساورني أي شك في أن الاسكندرية كائن حي من لحم ودم يكبر معي ويلازمني منذ سنواتي الأولى، ويُحدق معي في الأفيشات والصور على أبواب صالات العرض.
يعلو قليلاً صوت الشيخ سيد:
الحلو قال جايلى ولا جاشي
الحلو قال جايلى ولا جاشي
بقيت أكلم روحى وانا ماشىي
بقيت أكلم روحى وانا ماشي
الصورة القديمة مازالت تسكن وجدانه. الحياة تغيرت وشكل الشواراع والحارات، حتى صالات السينما إما أغلقت أو هدمت منذ سبعينيات القرن الماضي، فبدت الاسكندرية على طريقة الفيلم التسجيلي \” مافيش داريل\” الذي أخرجه الفرنسي نيكولاس باري وتناول فكرة أن الاسكندرية التي كتبها الروائي والشاعر البريطاني لورانس جورج داريل (1990:1912) في رباعيته الشهيرة (جوستين _بلثازار_ ماونتوليف _ كليا) لم تعد موجودة، وسمير نفسه يعي ذلك ويدركه جيداً بحسه المتجدد، لكن هذا لا يمنع من بعض الدهشة ومن يقينه بأن بلده الذي تقاسم معه الذكريات والتدرج في الصعود هو الأجمل.
يختال سيد درويش ويغني:
أنا وحبيبى روحين ف زكيبة
أنا وحبيبى روحين ف زكيبة
يتعلموا منا الحبيبة
يقول لي تكلمي ببطء حتى تحسين بمعنى الحروف والكلمات، فأخرس تماماً حين أُطالع عناوين الصفحات الأولى للجرائد على رصيف محطة سيدي جابر في طريق عودتنا إلى القاهرة.