نزعت شريحة تليفوني المحمول بعد أن أغلقته أمس لمدة خمس ساعات، مشاركة في مليونية مقاطعة شركات الاتصالات علها تهتم بتحسين الخدمة، وتخفيض الأسعار بدلًا من صرف الملايين على الإعلانات، وهذا كان أضعف إيماني وسبيلي لكظم غيظي، وبجهد غير قليل أنهيت واجباتي الرمضانية وابتعدت عن هري الـ \”فيس بوك\” واللهاث اليومي وراء مسلسلات التليفزيون، ورحت استمع لتسجيل قديم للست أم كلثوم وهي تغني كلمات بيرم التونسي بألحان الشيخ زكريا أحمد \”هو صحيح الهوى غلاب\”، أغنية الصلح بين الست والشيخ بعد خصام دام 12 عاما، مقدمة موسيقية عظيمة بمقام الصبا كأنها تمهد لحدث جلل وإن كان اللحن في مسار تصاعده طربي ومبهج، يتهادى صوت أم كلثوم مع مقام بياتي، حائراً الصوت وهو يتدلل بالسؤال الصعب: \”هو صحيح الهوى غلاّب.. ما اعرفش أنا، واليوم، اليوم بسنة\”، أتورط مع سؤال الست وأنا أمسك بـ\”عدة\” تليفوني المحمول كأنه يحتفظ بالإجابة داخل إحدى أيقوناته \”المستخبية\” والمسجونة بإرادتي، يزداد تعلقي بالعدة كما يزداد إيماني بأنه من قواعد \”العيشة واللي عايشينها\” الأربعون، قاعدة \”إوعوا يشيلوا عدتك\”، وهي القاعدة التي تشبثت بها على طريقة عادل إمام في مسرحية \”شاهد ما شفش حاجة\” أثناء رحلتي الحافلة مع المصرية للإتصالات وذراعها تي إي داتا، يعلو صوت أم كلثوم:
ما احسبش يوم ح ياخدني بعيد
يمني قلبي بالأفراح
ارجع وقلبي كله جراح
أتنفس عميقا حين أتذكر – كالعادة- كيف كانت تنقطع خدمة التليفون في البيت مراراً وتكراراً وخصوصاً في المناسبات، رمضان والأعياد وأي كل سنة وانتم طيبين، فيتصل أصحابي وأهلي وجيراني بأعطال التليفونات ويأتي العامل الغلبان يحمل حقيبة فوق ظهره ويعلق لفة أسلاك في ذراعه ويجر هموم الدنيا في ظله، وبعد أن يعيد الحياة إلى تليفوني الميت، أشد على يديه وأرجوه ألا يموت تليفوني ثانية، فيعدني وهو يبتسم ابتسامته الكبيرة أنني \”مش هشوف وشه تاني.. التليفون خلاص صحته بقت بمب\”، ويتصل بي السنترال الكبير ليطمئن أن العامل الصغير قد قام بواجيه على أكمل وجه وأن كل شيء على مايرام، وأنا أطمئنه كمن عاشت لتروي هذا الحدث الجلل:\”كله تمام يا ريس\”، ثم أنام قريرة العين حتى تنقطع الخدمة مرة أخرى وأعاود الكرة كما لو كنت ذاهبة إلى بيت الزواحف.
نظرة وكنت احسبها سلام وتمر قوام
اتاري فيها وعود وصدود وآلام
وعود لا تصدق ولا تنصان
عهود مع اللي ما لوهش أمان
وصبر على ذلة وحرمان
وكمواطنة مصرية أصيلة، وبدال ما اقول حرمت خلاص، أذهب لأدفع الفاتورة في موعدها، \”عشان ما يشيلوش العدة\”، خصوصاً أنني أعتبر هذه العدة رمزاً لحنيني لزمن قديم ولى وفات، فالتليفون الأرضي في البيت مثله مثل راديو ستي يذكرني أن من فات قديمه تاه، لذا كلما رأيت الإعلانات التليفزيونية عن التطور الهائل للمصرية للاتصلات واستغنائها عن الكابلات النحاسية المعرضة للسرقة دوماً بخطوط ضوئية بدأت تُحَزِمْ مصر، يملؤني الفخر والعزة الوطنية وأُقبل عدة تليفون الأرضي وأنا أقول: الحمد لله إن رهاني كان صح من البداية لما اشتركت في تي إي داتا بنت المصرية للاتصالات ورميت وصلة النت التي كنت أسحبها من عند الجيران والـ \”يو لإس بي\” لشركات المحمول الثلاثة، صحيح أن اختياري لم يكن حراً لأن تي إي داتا في فعل احتكاري استحوذت على 70% من خدمات الانترنت في السوق وأنا كنت ضمن المُسْتَحْوذين حيث تحول تليفوني المنزلي إلى خدمة \”الفيبر\” وبالتالي غير مسموح له بالاشتراك في شركة أخرى، لكني بصراحة سعدت وصبرت عاماً كاملاً وأنا كفاتن حمامة في فيلم \”أريد حلاً\” أدور بـ\”راوتر\” تي إي داتا لعل الله ينفخ في صورته ويشتغل.
يا قلبي آه
الحب وراه
اشجان والم
واندم واتوب
وعلى المكتوب
ما يفيدش ندم
أستيقظ كل صباح وأحمل الـ\”رواتر\” وأذهب إلى أقرب فرع من فروع تي إي داتا، هذا يحدث بالطبع بعد فشلي في التواصل مع خطهم الساخن، ليستقبلني موظف خدمة العملاء بابتسامته المرسومة وكلماته المنظمة ثم يحولني إلى ما يسمى بالدعم الفني، فيستقبلني موظف آخر بنفس الابتسامة يستجوبني ولا أجدع وكيل نيابة أو جراح بريطاني عن حالة \”عدة\” الراوتر ثم يسلمني إياه في النهاية وهو يودعني بابتسامته اللطيفة مؤكداً أن المياه عادت لمجاريها، فأعود وأنام مثل العادة قريرة العين، فيمر يومان فقط وتنقطع خدمة الإنترنت وأعود إلى النقطة صفر، لكن حين يأتي أول الشهر أذهب لسداد الفاتورة، ما هو عمر العدة مش بعزقة.
ياريت أنا اقدر اختار
ولا كنت أعيش بين جنة ونار
نهاري ليل وليلي نهار
حكايتي مع تي إي داتا حكاية طويلة، كنت أظنها تخصني وحدي؛ على اعتبار أنني أكاد أكون الإنسانة الوحيدة المكلومة في التكنولوجيا، إلا أنني فوجئت بطابور طويل من المكلومين على باب الدعم الفني، كل يحمل الراوتر الخاص به كأنه ابنه ويشكي همه وهو يطبطب عليه أو يشير إليه في يأس لا يعرف ما أصابه، فيما أعود أنا إلى البيت بـ\”راوتر\” ميت وأحمد الله كثيراً على نعمة \”العدة\”.
أهل الهوى وصفوا لي دواه
لقيت دواه زود في أساه
وفي كل مرة تفاجئني تي إي داتا بمكالمة هاتفية تطمئن على \”العدة\” حتى هذه المكالمة العبثية:
– يا أستاذة نحن باسم تي إي داتا نعتذر ولابد أن تحصلين على تعويض
– كتر خيرك والله، بس أنا عايزة خدمة الانترنت تشتغل
– لا. لابد من التعويض أولاً
– طيب. عوضوني
– لازم تروحي تدفعي الاشتراك الشهري أولاً
– زميلك في الفرع رفض ياخد الاشتراك
– طبيعي. عشان لازم نحل المشكلة أولاً
– طيب. حلوها
شهر كامل ولم تحل المشكلة ولم أدفع الاشتراك حتى جاءني تليفون آخر:
– يا أستاذة حضرتك ناوية تكملي مع تي إي داتا
– طبعاً مكملة. أنا بس مستنية تحلوا المشكلة
– حاضر. هنبعت لك فني
ومرت ثلاثة شهور وأكثر وأنا أنتظر \”جودو\” تي إي داتا ولم يحضر، لكني أجلس بجوار العدة وأنا أترحم على زمن \”المرمطة\” الجميل وورق الدشت الأصفر واللهاث وراء المعلومة من ندوة لمؤتمر لمهرجان لماتش كورة لانفجار في ميدان التحرير، ثم أدعو الله أن ينصف \”عدتي\” وأسبح شاكرة وأردد: أبانا الذي في المصرية للاتصالات، لتكن رعايتك مشيئتك ونجنا من الشرير، ولك القوة والمجد الوطني والـ 70%.
يتطور لحن الشيخ زكريا حتى ذروته ثم تسأل الست كأنها تتخلص من غلبها :
إزاي يا ترى
أهو دا اللي جرى
أهو دا اللي جرى
وانا ما اعرفش
ما اعرفش أنا.