ناهد صلاح تكتب: مدد يا شيخ العرب

(1)
\”عدت الليلة\” بعد فوز منتخب مصر لكرة القدم على منتخب المغرب، هذا الفوز الذي جعله يتأهل إلى نصف نهائي كأس الأمم الإفريقية، وجعل شوارع وسط البلد كما شوارع القاهرة عموماً كرنفالاً يتدبر الفرح قدر الإمكان. بدت الصورة لي وأنا غير المهتمة أساساً بكرة القدم أو الفرجة عليها إلا لماماً وفي ظروف استثنائية جداً، إن الأمر ليس مجرد \”نصرة\” كروية وإنما اشتياق لـ\”فرح\” مفقود في ممرات وحارات وشوارع نعبرها يومياً بوجوه متجهمة. فرغت الشوارع فجأة من أطيافها التي كانت تتراقص وتتدافع وهي تغني بمرافقة أبواق السيارات، وبقيت تقريباً وحدي أتأهب للتمتع بهذا الفراغ في هذه المدينة التي لطالما تقاسمنا معاً أحزاناً ونجاحات وإخفاقات مذهلة.. وقفت أتأمل واجهة فندق الكونتيننتال التاريخي كعجوز يراقبني في وقفته عند تقاطع شارعي الجمهورية وعدلي وفي مواجهة تمثال إبراهيم باشا يتوسط ميدان الأوبرا والذي تعيد شركة “إيجوث” العامة للسياحة والمالكة له بنائه على نفس طرازه القديم مضيفة إليه \”مول\” كبير. أتجاوز الفندق إلى شارع عدلي؛ فأمر بـ\”جروبي\” على يساري ثم بعده بقليل بالمعبد اليهودي على يميني، لأشاهد رجلاً أعطى ظهره للشارع وراح يفعل الفعل التاريخي ويتبول على جدار تاريخي لعمارة تاريخية، بينما أواصل سيري لمقابلة صديقة مغربية كنا قد اتفقنا على العشاء سوياً مع مجموعة من الأصدقاء في وسط البلد.
(2)
تعرفت بصديقتي المغربية في زيارة عابرة لبيروت منذ عدة سنوات، وانتابتنا سوياً حالة سخرية عارمة طالت بقية الحضور في لقاء جماعي بإحدى المقاهي، وتمرسنا فيها بكل الأشكال والألوان، فسألتها بداية متندرة: \”إيه اللي جاب القلعة جنب البحر؟\”، جاوبتني: \”يا ستي إحنا اللي بنينا القلعة\”، وإذا بمواطن لبناني عتيد يصدمنا بنعرة قوية قائلاً: \”حبيبتي.. نحنا كنا هون قبل الكون\”، فيقاطعه زميل عراقي قائلاً: \”أما نحن في العراق فكنا قبلكم جميعاً صنعنا العالم بحضارتنا الأشورية\”، فواجهته أنا بالضربة المرتدة: \”آشور مين يا بابا؟! ده كان عندنا في مصر اسمه عاشور وسافر عندكم في العراق فأسميتموه آشور\”.. ليلة كاملة نتداول فيها السخرية من شوفينية عربية متنوعة تفرد ذراعيها وتتمدد بحماس غير مبرر على مساحة العالم العربي كله، بل وتتجاوز هذه الحدود بمبالغة تتنكر للواقع البائس. وانتهى لقاء المكاشفة والسخرية بتصرف فجائي من صديقتنا المغربية التي قامت وجلبت C D بأغاني الثنائي الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم، نسخة نقية بلا  شوائب أو \”خروشة:
يامه مويل الهوى يامه مويليا
طعن الخناجر ولا حكم الخسيس فيّ..
ذكرتني صديقتي العزيزة بمخرج مغربي شاب صادفته ذات مرة في مهرجان الإسماعيلية وكان قد جاء من باريس ليشارك بفيلمه في المهرجان، حين قال لي سأفاجئك بمطرب لا تعرفونه أنتم في مصر وإذا به يسمعنا أغاني الشيخ إمام بنفس الجودة العالية، ونحن ننفجر ضحكاً ونرد عليه بالتأكيد لم نعرفه يغني هكذا، فقد اعتدنا نسمعه من شرائط سجلت صوته وصوت الشارع معه.
(3)
حكى لي الفنان الراحل نور الشريف ذات مرة وهو يشرح مدى تأثير الفن والفنانين على المجتمع، وكيف يستطيع الفن أن يمهد للأفكار الكبيرة، قصة المواطن المغربي الذي اعترض موكب جمال عبد الناصر أثناء زيارته للمغرب في بداية الستينيات، وكان الموكب يتجول في شوارع الرباط يتصدره عبد الناصر بجوار الملك محمد الخامس وتسيجه الجماهير الغفيرة، عندما ظهر هذا المواطن بملامحه الطيبة وهو يصارع الزحام حتى استطاع الوصول إلى السيارة التي تقل الرئيس والملك، ثم صرخ بأعلى صوته: يا سيادة الرئيس! طلب عبد الناصر من السائق أن يتوقف وأشار للرجل بالاقتراب، وصافح الرجل عبد الناصر وسط دهشة الجميع، ثم اقترب الرجل أكثر وهو يقول: \”سلم لي على إسماعيل ياسين\”، فابتسم عبدالناصر وهو يهز رأسه موافقاً.. ومنذ ذلك الحين لم يكن عبد الناصر يذهب إلى أي بلد إلا وسبقته أضواء المدينة.
(4)
يظهر على شاشة إحدى القنوات التي تعرض الأفلام الكلاسيكية أمامنا إسماعيل ياسين واقفاً خلف فريد الأطرش وسامية جمال في أوبريت \”بساط الريح\” من فيلم \”آخر كدبة\” الذي أخرجه أحمد بدرخان عام 1950، يرتدي الجميع الزي المغربي في الأوبريت الذي كتبه بيرم التونسي ولحنه فريد الأطرش، عن هذا البساط الذي يحملهم إلى أنحاء الوطن العربي، إلى سوريا ولبنان، وبغداد، ومراكش وتونس قبل أن يعود مرة أخرى إلى مصر. تبدو الرحلة في هذا الأوبريت أشبه بالجولة الفنية التي قام بها فريد الأطرش ومعه سامية جمال إلى تونس والجزائر والمغرب العربي والتي بدأت في يناير واستمرت حتى فبراير ومارس عام 1951، حيث أحيا حفلات في المسرح البلدي بتونس وحفلات في قاعة Pierre Bordes بالحي الأوروبي بالجرائر العاصمة التي تعرف حالياً باسم قاعة ابن خلدون وسينما الجمال، هذا غير حفلين في مدينة قسنطينة، وعدة حفلات لأيام متوالية بمدينة مراكش.. بل إن سامية جمال رفيقته في الرحلة لها أصول مغربية فجدها لأمها كان أحد التجار الذين مروا بمصر أثناء رحلته إلى الحجاز لتأدية الحج ثم استقر في بني سويف، وكان هذا حال الكثير من المغاربة حينذاك. يعلو صوت الأغنية ويتعالى معها صوت الأصدقاء وهم يرددون مع فريد الأطرش:
بساط الريح يا ابو الجناحين
مراكش فين وتونس فين
بلاد الحوت، والغلة والزيتون
فيها الشفايف قوت، وللشراب عيون
ياللي عليها تفوت، إشبعْ طعام وشراب
ولا تزيد يا خي
(5)
يرن هاتفي المحمول ويأتيني صوت أمي: إفضي لي شوية .. عايزة أزور السيد البدوي، فأرد عليها: حاضر.. من \”فاس\” إلى \”طنطا\” مدد يا شيخ العرب مدد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top