ليلة أمس وبعد أن راح جميع من في المنزل في سابع نومة، أحضرت طبق المقرمشات، وجلست اشاهد فيلم \”سيدة القصر\” للمرة المائة بعد الألف، وفي كل مرة اشاهد فيها هذا الفيلم، اشاهده بنفس المتعة والابتسامة والشغف، كما لو كنت اشاهده لأول مرة، وجاء مشهدي المفضل وقت أن علم عادل \”عمرو الشريف\”، بأن شفيق \”إستيفان روستي\”، ومعه مدام ملك \”زوزو ماضي\”، لصان يحاولان إقناعه ببيع عزبة يزيد تمنها عن ١٧٠ جنيها بمبلغ ٧٠ جنيها فقط طمعا في سمسرة مبلغ ٥٠ ألف جنيه لصالحهما، وتأتي اللقطة المفضلة لي مع الجملة العبقرية لإستيفان روستي وهو يقول: \”أنا فعلا اخدت الفلوس من الراجل ده يا عادل بيه، لكن علشان أهاديك بيهم\”، ويقرر عادل تسليمهم للمركز، ويترك أمرهما للدكتور صديقه \”عمر الحريري\”، ليحق بزوجته سوسن \”فاتن حمامة\” الغاضبة، وهي تركد على الطريق خارج العزبة.. ترتدي فستانها الميدي أو الشانيل، وحذاءها الديكولتيه كما كان يطلق عليه في هذه الفترة، وتلوح بيدها لسيارة نقل لتركب بكل ثقة مع رجل لا تعرفه على الإطلاق، ويلحق بهما عادل.. يحاول أن يستوقف السيارة النقل، وفي تلك اللحظة، يسأل السائق سوسن: \”حضرتك تعرفي الراجل ده؟\”، فتجيب: \”سوق على طول يا أسطى\”.. يسرع عادل أمام السيارة بحركة مصري أمريكاني، فينزل سائق السيارة النقل مسرعا، ليضرب عادل دفاعا عن سيدة لا يعرفها ولا تعرفه.. فقط لأنها احتمت به، لكنه يتوقف عن ضربه بعد أن تسرع سوسن لإنقاذ عادل، ويبتسم السائق البسيط ابتسامة خجل مفعم بالبراءة ويقول: \”طب مش كنتوا تقولوا كده.. ربنا يهدي سركم\”، وينتهي الفيلم والسائق يقول: \”ما ينوب المخلص غير تقطيع هدومه\”، وتنزل كلمة النهاية.
لقد شاهدت هذه المشاهد أكثر من مائة مرة، ولم يلفت انتباهي كم هذه التفاصيل السريعة.. ثقه سوسن وهي تمشي في هذا الطريق بهذه الملابس في منتهي الأمان، وهي لا تضع اعتبارا لشئ، وأيضا تركب سيارة مع رجل غريب دون التفكير في نواياه، وعدم خوفها أن يأخذها خلف مصنع الكراسي مثلا، والأكثر دهشة هو نخوة ورجولة هذا السائق البسيط مع سيدة احتمت به، فتصرف معها بكامل الرجولة والشهامة، ولم ينظر لها أي نظرة سيئة، بل بالعكس حاول حمايتها وعرض نفسه للخطر من أجلها.
حتى الشرير شفيق كان رجلا كوميديا، وكل همه سرقة عادل بك بطريقة حنينة من وجهة نظره، وكذلك مدام ملك كانت شخصية مستفزة، لكن كلامها مرتب وشيك في نفس الوقت.. اقصد أنه حتى الشخصيات الشريرة كان لها جانب آخر لطيف، لأنهم بشر.. ليسوا ملائكة ولا شياطين.. كان هناك دائما أكثر من بُعد لكل شخصية مهما صغُر حجم الدور.
هل هذا الفيلم من إخراج الرائع كمال الشيخ لعام ٢٠١٥؟ ونحن من نعيش في عام ١٩٥٨ أم العكس؟ سنة ٥٨ كانت مصر أكثر تقدما وتحضرا عن أيامنا السودة هذه.. كم الرقي الموجود في آخر عشر دقائق للفيلم لا توصف.. هم كانوا الأكثر تحضُرا ورقيا وأخلاقاً ورجولة.. أين ذهبت مبادئ وأخلاق المصريين؟ ومن أين جاءت الأخلاق الخبيثة الغريبة الدخيلة على مجتمعنا؟ اصبحنا نعيش في غابة كبيرة.. البقاء فيها للأقوى، والأكثر جشعا وقذارة.. ضاع حلم انتصار الخير، فلم يعد ينتصر غير الشر في هذا الواقع المؤسف.. هم من كانوا يعيشون في الألفية الجديدة، ونحن الآن في حاجة لركوب أسرع آله زمن للحاق بهم وبمصر، كما كانت وكما ينبغي عليها أن تكون.
عام ١٩٥٨ كانت سيدة القصر، واصبحت الآن حافية على جسر السويس.