ناصر أمين يكتب: الملاحقة الجنائية الدولية للرؤساء والملوك والقادة العسكريين (1)

*سلسة مقالات تصف وتشرح الملاحقة الجنائية الدولية لمرتكبي الجرائم الأشد خطورة فى التاريخ الحديث.

المقال الأول (المنتصر والمهزوم):

تعتبر محاكم نورنمبرغ وطوكيو والتي تأسست لمحاكمة مجرمي الحرب النازيين فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، أول مشروع لمحاولة إيجاد محكمة دولية جنائية، فحتى ذلك الحين كان هناك بضعة اقتراحات أو مشاريع لإنشاء محكمة جنائية دولية شهدتها البشرية، ففي العام 1474، تأسست ما يمكن أن يوصف بمحكمة جنائية من قضاة ينتمون إلى بلدان وقطاعات مختلفة من النمسا وألمانيا وسويسرا لمحاكمة (بيتر دوهاغينباخ)، بتهمة ارتكابه جرائم قتل واغتصاب وغيرها، مما اعتبر انتهاكا لـ \”قوانين الله والإنسان\”، وذلك خلال احتلاله لمدينة بريزاخ  Breisach ثم خفتت الفكرة لسنوات لعدة قرون، وتلتها محاولات أخرى غير مكتملة، إلى أن وضعت الحرب العالمية أوزارها، وبدات دول التحالف تفكر فى ملاحقة القادة المهزومين من دول المحور، عن الجرائم التى ارتكبوها أثناء الحرب، وما صاحب ذلك من انتهاك لاتفاقيات جنيف او مايسمى بقانون الحرب ، وكذلك كل الخروقات المتعلقة بالقانون الدولى الإنسانى، بالإضافة إلى الجرائم ضد الإنسانية التى شهدتها تلك الحرب التى خلفت ملايين الضحايا والمصابين.

وعلى الرغم من أن محاكمات طوكيو ونورينبرج تعد التجربة الأولى فى التاريخ الحديث القريبة نسبيا من فكرة الملاحقة الدولية لمرتكبى الجرائم الأشد خطورة، إلا أنها لا يمكن أن تعدو كونها محاكم دولية، أنشأها المنتصرون فى الحرب العالمية الثانية لمحاكمة المهزومين فيها، فتمت محاكمة قادة المحور على مجمل الفظائع التى شهدتها الحرب العالمية الثانية والخروقات التى مورست في القانون الدولى الإنسانى واتفاقيات جنيف، أو ما يسمى قانون الحرب.

لذلك فإن طوكيو ونورينبيرج -وإن كانتا قد شكلتا أول تحرك دولى لمحاكمة قادة سياسين وعسكريين خارج نطاق قواعد وقوانين السيادة الوطنية- إلا أننا لا يمكن أن نصيغ عليها قيمة العدالة الجنائية الدولية، وذلك لسببين أساسيين:

السبب الأول: نشأت المحكمة التى كانت بناء على طلب دول التحالف الدولى التى انتصرت على دول المحور، وعلية فقدت المحكمة صفة الإرادة الدولية المتكاملة التى تعبر عن عالمية وعدالة إنشاء المحكمة الجنائية.

السبب الثانى: إن المحاكمات السابقة -وإن كانت حققت وحاكمت على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية- إلا أنها افتقدت لأهم معايير العدالة، وهو تجريد أعمال التحقيق فى الجرائم التى وقعت من جميع الأطراف، وتقديم كل المتورطين فى ارتكابها إلى المحاكمة.

لكن ما حدث فى طوكيو ونورنبيرج هو التحقيق فى الجرائم التى ارتكبها المحور دون التحالف، وتقديم قادة المحور للمحاكمة دون التحالف، وهو ما يخل بقواعد العدالة الجنائية الدولية وغير الدولية.

ولعل تلك الأخطاء التى وقعت فيها محاكمات طوكيو ونورنيبرج فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، هى ما دفعت قوى القانون الجنائى الدولى، إلى بذل الجهد من أجل تحقيق ما يمكن أن يطلق عليها \”الملاحق الجنائية الدولية\”، لكل مرتكبى الجرائم الأشد خطورة دون تمييز، والتى أخذت تطورا مهما ومنحى إيجابيا فى مطلع التسعنيات على أثر اندلاع حرب البوسنة والهرسك، وكذلك اندلاع الصراعات القبلية المسلحة فى روندا، وهو الأمر الذى سوف نتتبعه فى المقال القادم.

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top