نادية كامل تكتب: المتجولون.. فيلم "بحري"

ملاهي شعبية

أطفال على وزة المرجيحة

فرح لهو براءة

وجوه متوجسة

تصوير فوتوغرافي

رجل يتتبع أطفال في حارة

مكان منعزل شديد الإضاءة

رجلان يحققان مع رجل

الريبة والخوف يملآن الموقف

إنت بتصور العيال…. ليه؟

انت لك في العيال؟

إنت كنت بتصور العيال.

… ليه؟

– كنت عايز أعمل حاجة متميزة

– ما تجيش بحري تاني

………………..

إنعكس مزاج التعارف وجرأة التجول المصاحبين للثورة الاجتماعية على أفلام السينمائيين المستقلين، فهم جزء مرهف من المجتمع، وأنتج عددا من الأفلام المتسللة خارج الفقاعة الثقافية الاجتماعية التي خنقتنا وثرنا عليها.. ظاهرة أحب أن أسميها سينما التجول، وهي سينما يحمل فيها السينمائي كاميرته ويتجول بخطوات أولى نحو الزوايا المعتمة عنه.. فاتحا صدره وعينه وقلبه ووجدانه لملايين من المؤشرات الوامضة والتي لا تفهم إلا بالحدس ولا يمكن معها التحليل العلمي المرتب ولا التخطيط الدقيق المسبق.. من وجهة نظري تستحق هذه الأفلام التقدير والاحترام لأنها تفتح رئة السينما والمجتمع لتتنفس قليلا.

………………..

ما أن يخطو المتجول خطوة خارج الحدود غير المرئية جغرافيا جتماعيا أقتصاديا ثقافيا في إتجاه ما يثير انتباهه وفضوله، حتى تصطدم بجدار من لهب.

تتجسد الحواجز المخفية منيعة ومتنوعة، وكلنا يعرفها ليس فقط المخرجين، تتسلط النظرات على المتجول، وقد يلتف حوله جمهور مدهش من الأطفال أو الصبيان والصبايا في فضول وتهافت يكتسح كل شئ أو قد يخرج من وسط النظرات من يشعر باستفزاز أو ريبة أو تهمة أو من يجد في الموقف فرصة لفرض سطوته أو الشعور بذاته، بل وفي بعض الأحيان تمتد يد عليك.

قد يصبر المخرج أو لا يصبر، قد يكون المخرج مستعدا وقد يصدم ويخاف ويختبئ وراء التعالي وقد يسب الدين ويمضي.

بعض المخرجين الصبورين ينتظرون مدة كافية حتى يظهر شئ آخر، تتوطد علاقة أو أخرى، ويبدأ تفاهم جديد بينه وبين أفراد بعينهم. في هذه الحالة في أغلب الأحيان يأتي دور الدولة والسلطات الرسمية في شكل شرطي أو مخبر أو من يستدعيهم لاستعادة هيبة الريبة والشك التي تم إهمالها والتخلص منها.

ومع كل ذلك في بعض الأحيان ينجح المخرج ومعارفه الجدد في إستكمال التعارف ويصنعوا فيلما سويا.

الكثير من هذه الأفلام فيها جديد لأنها تصف ما تكتشفه وما يدهشها ولأنها تعتمد بشكل جاد على حد أدنى من الندية، فتبتعد مسافة جيدة عن الإكليشيهات.

أغلب أفلام المخرجين المتجولين تقص علينا قصة ما دار بعد تخطي الصدام الأول وعبور هذا الجدار، وتصف مجتمعا ورب بابه وأراد أن يتم تسجيله.

أما فيلم \”بحري\” فيتميز بأنه قصة اللقاء الأول، اللقاء الحارق المانع، جدار النار، وأعتقد أن هذا الاختيار يميزه تماما.

فيلم \”بحري\” لا يحكي قصة ياسر – الواد ابو مطوة – وحياته ومشاكله بعد أن نجح المخرج في كسب ثقته.. اختار المخرج أن يكسب ثقة ياسر على مدى أكثر من سنة، من أجل أن يحكيا سويا قصة لقائهما الأول، ذلك اللقاء الذي كان كفيلا بمنع أي تفاعل لاحق إلى الأبد، لأنه كان لقاء عدوانيا مروعا.

لم يهدأ لغنيمي بال منذ أن طُرد من بحري بسبب التقاطه صور لأطفال تلعب في الشارع.

ظل يحاول حل الفزورة. كيف أمكن للتواصل أن ينعدم إلى هذه الدرجة وبهذه السرعة؟

القصة هي أن المخرج حاول التجول بكاميرته وهو يعتقد أنه يفعل بالتحديد ما هو مطلوب منه كفنان، وهو أن يخرج من دوائره الآمنة (كثرت أم قلت) ويهتم بـ \”الناس في الشارع\”، فإذا به في غضون ثوان مطرود ومقطوع الرجل من حيّ بأكمله.

أليس هذا اللقاء المهين/ المخيف ما يمنع الناس من الخروج من دوائرهم؟ سواء كانوا فنانين أم صنايعية، مهندسين أم عمال، سكان مناطق معتنى بها أم عشوائيات فلاحون من الريف أم بروجوازيين من المدينة. فالمعزول ليس الفنان والمثقف فقط، الشعب كله يعاني من العزلة والتجزر، يهابون كثيرا التعامل مع المجتمعات \”الأخرى\”. وكلنا يعرف حدوده أو نعرف بوجودها، فنحتاط مسبقا ونسجن أنفسنا، وإن لم نكن نعرفها وتجولنا عن جهل أو براءة، سرعان ما نتعلم الحدود عندما يلسعنا جدار النار.

أليس هذا ما يمنع الكثير من المواطنين من الخروج والتجول والتعرف على بلده، خارج الخلفيات المتاحة؟

لا وجود للدولة ولا السياسة في هذا الفيلم، وكأن الفيلم يتكلم عن غيابهما.

وفي نهاية الفيلم نتذكر الجملة الإهدائية الأولى على الشاشة \”وقائع هذا الفيلم أغلبها حقيقية\”.

يقول المخرج عن فيلمه \”وبعد عام كامل من المحاولات المستمرة للتواصل، نشأ نوع من الصداقة، حاولنا خلال تلك الفتره فهم ما حدث بيننا في اللقاء الاول\”.

عاد المخرج الى المكان الممنوع خائفا متهيبا محتاطا عدد من المرات حتى سنحت فرصة لتواصل جديد. وبعد مدة من الواقعة أخرج فيلما عن ما حدث له في تلك الليلة، وقام بتمثيل دور \”الواد أبو مطوة\”، الذي اعترض طريقه، الواد أبو مطوة شخصيا – ياسر.

بتمثيله لدور نفسه أعطى ياسر طاقة غامضة كبيرة للفيلم.

من نواحي تفرد فيلم \”بحري\” أنه روائي نابع عن إرادة تسجيلية نقية.

فقد نخر غنيمي في تلك الواقعة التي أثرت فيه وأشعرته بالعجز والإهانة، حتى غيّر من ميزان وناموس محظوري التجول، وتوصل إلى تسجيل ما حدث تلك الليلة، وما حدث ليس أنه طُرد من بحري، ما حدث هو تقاطع حياتين في لحظة ما من حياتهما لا يسعهما فيها التفاهم، ويؤكد المخرج هذا الانطباع عندما يصف فيلمه بأنه إرتجالي، فما يشع من الممثلين وفهمهم لأدوارهم الدرامية وثيقة تسجيلية في حد ذاتها، تخرج قراءتها عن سيطرة المخرج والممثل والمتفرج.

ومن الناحية الفنية الفيلم بليغ وجميل، فهو درامي أصيل، يستخدم لغة الوجدان لقص ما لا تقصه كل مفردة من مفردات السينما وما لا تقصه الأحداث السردية ذات التسلسل المنطقي. يستخدم الإيحاء الصوتي والبصري الجمالي والمونتاجي والإيقاعي ليعطي كثافة شاعرية للمتلقي، فتأتي جمل الحوار القليلة كمشاهد ذروة، تُسري فينا مشاعر متضاربة من العبثية إلى القلق ومن الفضول إلى التأمل. هناك إيمان بالشعر السينمائي عند غنيمي وفريق عمله في هذا الفيلم، فهو يتحرك بحرية بين الأساليب السنيمائية ويستخدمها بكفاءة بدون فذلكة ولكن بثقة كبيرة.

يقول غنيمي: لن تتاح لي فرص كثيرة لعمل فيلم مثل بحري، لأن ما دفعني إليه كان قويا جدا، مما جعل كواليسه ربما في أهمية الفيلم أو أكثر. وأنا اتساءل لماذا؟ هل حكمت أنك ستصنع أفلاما لا يدفعك إليها شئ يزلزلك من الداخل؟

السؤال الذي تبقى عندي هو \”إلى أي مدى استمرت تجربة \”بحري\”؟\” هل عرض الفيلم في حيّ بحري بحضور بطل الفيلم ابن الحتة؟ وكيف كان العرض؟ وهل بقى المخرج على علاقة ببطل الفيلم؟

نعم، كل هذا الكلام عن فيلم روائي قصير طوله 13 دقيقة من إنتاج سنة 2011.

فيلم بحري اخراج: أحمد الغنيمي

مدير التصوير: إسلام كمال

مهندس الصوت: سمير نبيل

مونتاج: بيري معتز

منتج فني: شريف العظمة

لمشاهدة فيلم \”بحري\”.. اضغط هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top