الحقيقة إننا في البدايات دائما أكثر تفاؤلا، أقوى إيمانا، أكثر تمسكا، أعلى طموحا وأنقى تصورا \”للحدوتة\”، حتى إن نظرتنا تتأرجح بين تمني، ترقب، والاجتهاد للنهايات.
وبين هذه وتلك وذاك نجهل الفارق. فعمليا استقبلنا هذا العام بمفهوم \”عانقيني\” سواء بالمعنى التفاؤلي الساتر للمعنى التشاؤمي، رغبة في فرصة أجمل أو حتى بمعنى صفحات السخرية القدرية، ففي النهاية لم يكن بالمعنى الواضح للاستقبال. بل كان منه دعوة وجذب بتوسل، أكثر منه استقبالا أنيقا راسيا بحزن وبؤس وشوق أداء الفنان هاني عادل.
وبالنسبة لي ككاتبة لتلك السطور، فأنا محظوظة لما آتاني به الحظ \”اللغوي\” من تشبيه على طبق من فضة، يتمثل في كون عام 2016 يتم التعامل معه في اللغة العامية بصيغة الأنثى، فهي قد تكون كالأم العائدة بعد غياب لأطفالها الذين أصبحوا شبابا ذوي ذبذبات صوت خشنة –بمن فيهم من إناث يحيين روتينا يوميا قاسيا– فهم كالأغراب بالنسبة لها، يتهافتون عليها أملا في الاتواء من عطش الحنان والاطمئنان بأن كل شيء سيصبح على ما يرام، والقادم –ليس أجمل بل على الأقل- مكتوب له قدريا كما خطط له.
ثم قلبك ليه ماردش؟!
ولكن 2016 لم تكن بأم، ولم تكن من البداية حتما، فهي لم تكن محملة بالحنان على الإطلاق، بل رجونا منها جرعات اطمئنان على مستوى العلاقات العاطفية والصداقات وصلات الرحم أيضا، لتكون محملة على الأقل بالرسائل –وتلك أماني المجتهدين- أو بالحلول و\”البدايات\” السعيدة –وتلك أماني العامة– فبين هذه وتلك، نحيا منتصف عمر هذه السنة ولا نجد جوابا!
وهو حتما نتاج طبيعي، فسقف التوقعات –وليس الطموحات– كان عاليا بلا أساس يستند عليه، أو بمعنى أدق بلا أساس سليم يستند عليه.
فانظر لعامك السابق بآماله وخططه ستجدها \”مركونة\” في كومة \”كركبة\” غرفة نومك، وبدلا من أن تطورها أو تبحث عن أساس العيوب والثغرات التي اعترتها وجعلت من نفسها عقبة في تنفيذها على الأرض، قمت باستبدالها بأخرى جديدة ونقية. أو هي كذلك كما تراها أنت، ولكنك تجهل أنها أخت توأم مخالف في الشكل لأختها التي اخترعتها في العام السابق بنفس العيوب والثغرات، فأنت تعيد الكرة! وهنا تحّمل \”الست الوالدة\” ذنب إزاحة تلك الكومة من \”كراكيب\” الأفكار معتقدا أنها قد شتت انتباهك، في حين أنها تمارس وظيفتها الدورية المعتادة والمنطقية لترتيب \”مساحتك\” لتستطيع أن تحيا ككائن متعدد الخلايا منتج ذلك الدور الذي تقوم به 2016 كـ\”خالتك\” 2015 التي احتضنتك في منزلها بالأمس في عدم وجود أمك، فتعود لتسأل الأخيرة عن ما خصصته من مكان في فضائها. فماتردش!
ثم أنت تظن أنك فقدت حلمك وأملك، فتعتقد أنك \”أصبح ماحدش\”، ثم تسهر ثم –عن أي مساحة لمبعثراتك– تفتش، ثم أنت \”أعمى يعمل إيه؟\”، فتكتئب فتلجأ لأصوات الضحية بداخلك مهللا: \”ساعديني.. ساعديني.. عانقيني\”.. \”عانقيني\”، فتسألك: ثم إيه؟
تجاوب: \”ثم تبقى\” سنة خير وحظ عليا. \”ثم أبقى\” حققت حاجة، ثم (تغازلها أملا في مساعدة) حلوة عنيكي ليه؟
ولكن 2016 لم تأخذ دور الأم فحسب أيضا، فتجدها تلك الفتاة الدخيلة بحنان وجمال أفلام الستينيات أو سيناريوهات تامر حبيب على حياتك، ومن هنا يظهر دورك في سوء فهم 2016 سواء كأنثى أو كسنة ميلادية، فأنت تراها إستثنائية ونقية وفارقة، وذلك من نفس منظور فهمك لوالدتك التي ستتحمل \”كراكيبك\” حتى يصفى ذهنك وتنتج وتقرر وتبتهج، ولكنك تعيد الكرة مرة أخرى فتعلي من سقف آمالك دون أن تبذل أي مقدمات، دون أن تضع حدودا لرهاناتك في الحصول على جواب في كونك مطلوبة أم لا، دون أن تنتهج طريقا مباشرا للوصول للحوار الودي \”إياه\” بسبب تركيزك على الخطة \”ب\”، والبحث عن طرق \”بديلة عن المباشرة\” للمصارحة.
وهو أمر طبيعي لأنك بلا أساس قوي تستند عليه، مهزوز في رغبة البشر فيك، مطحون في طعناتهم السابقة، مستغل لوجود اسثنائيين في الدنيا، وعلى مقربة منك، على أمل أن تكون أكثر نقاءا!
وكما وعدتك عزيزي القاريء أن أسرد سبب فشل عامنا -على حد اعتقادنا- من واقع تجاربي الخاصة، فقد سعدت أن أحيا الدور الثاني لعام 2016 على خشبة الحياة في مواجهة أحد الأصدقاء الذين وجدوا في \”استثنائيتي\” وجدية وحصرية -بل ومجرد حداثة- وجودي في محيط معارفه، سببا كافيا ليصبح هاني عادل جديدا، وتحديدا في نفس الـ\”كوبليه\” الانهزامي الأول من نفس الأغنية، ولكن استمريت في أن \”قلبي ليه ماردش\”، مع علمي التام والصريح بالإجابة، لكن تقمصه للدور كان قويا لدرجة وصوله إلى المقطع الثاني من الأغنية.. ذلك التقمص الذي يذكرني بأن أشكره أن ألهمني التشبيه الثاني على طبق من ذهب، وذلك لأنه ظل بلا أساس لكل آماله تلك، حتى إن وصل إلى أن هلل بـ: \”ثم هما كاوا هما\”.. كالعادة القوم يثرثرون عن فشلي حتى في ما أحظى به من فرص، وأنت لست مثلهم، \”ثم قالوا كلام كتير\” عني منفردا بدونك حتى تهيأ لي أنهم ذكروا اسمك في وسط تلك الثرثرة. أو أدعي أنهم \”قالوا كلام كتير\”، \”ثم فاهم\” من البداية أنني قد اخسر \”ثم بأزعل\” بالرغم من ذلك، \”ثم –كده عا كبريائي- أنا أصلا كبي\” وأقاوم انهزامي في قوقعة توقعاتي التي أعلم جهلك بها، واتخذ منك موقفا حازما (راجع مقال 2016.. طب ليه؟)، ولكن فعلا، ولكن بشكل غير مباشر وفي باطني بصراحة خرساء \”أقولك ساعديني.. ساعديني\”!
فكيف لنا أن نتوقع طموحات البشر في النهايات، دون أن يعملوا على دعم وتأسيس البدايات في العمل والاجتماعيات!
ومع ضعف نفس كهذا، ستميل حتما إلى أي حجة لتبرر هالات استمراريتك أو \”التماحيك\” الخاصة بك في أي نوع من أنواع النجاح، وتلك الـ\”تماحيك\” نجدها في أصدقاء السوء الذي يستعملون أسلحة أبشع من أسلحة المخدرات وطريق الانحراف، وأنا أصر دوما في حديثي معك زميلي القاريء على أن ألجأ إلى استعارة تشبيهات ومواقف الصداقة باعتبارها أولى وأكبر قراراتنا الأبدية التي نختارها منذ أول يوم لنا خارج منازلنا، تلك أولى القرارات البعيدة عن الأجيال المُعلمة والمُوجهة لنا، فهي أبدية تلقائية فطرية، ولكن قد تخطيء أحيانا.
روحي للي حابَتيه:
هناك أمور تتربع على عرش أولويات الحياة وهي العمل والاستقرار، ويختلف البشر باختلاف تعريفهم وطرق بحثهم عن كلاهما، وتتنوع طرق البحث منها -المتاح إنسانيا- ومنهم ما يسمى بالانتهاك، فمن يسعى لشعور الأمان قد يبعد أي فرد يحتمل أن يشكل له عقبة في سبيل الوصول لمبتغاه، ولكن أحيانا إحساس أو رغبة الأمان تكمن في أمر نريده وليس ما نحتاجه، فأرى أن الاحتياج أمر فطري متاح سماويا من المولى لعباده ويرزقهم بما يسد احتياجهم هذا، وتحديدا على المستوى العاطفي. فتلك الصديقة التي وجدت في صداقة صديقتها مع من تكن هي له مشاعر الانجذاب ما يشكل خطرا على طريقها في الوصول للأمان. الأمان الذي تعتقد أنه يكمن في مبدالته لها نفس الشعور، فقامت بإزاحة صديقتها من الوجود الإنساني حتى تصفو الصورة في نظر الشخص المُسلط عليه ضوء معتقداتها عن الأمان، ولكنها عندما عادت بعد فترة بسيطة حقا، اكتشفت أنها خسرت بحبها الصديقة والهدف معا، فقررت أن تلجأ للغنيمة الأقل إهانة لها في سعيها لكسبها مرة أخرى. وهنا كان الرد برعونة أداء دينا مسعود: \”روحي للي حابَتيه\”.. عنده ستلقين الأمان والدعم المعنوي الذي اعتدتِ على الغرف منه كلما ضاقت بك الحال. فعلى الجانب الآخر من النهر كان يقف هدفك الملقب بزعيم الطاقة الإيجابية، وقتما كنتِ تطلبين مني جرعة طاقة، وأنتِ \”عينك في عيني وبتلاغيه\”، بإعتباري \”شوال حبتيه عليا\”.
قد يرى البعض أن في وصفي الدقيق لكافة أحداث تجربتي مع 2016 ومع شخوصها، أنني كنت على علم وليس مجرد توقع أو شك بما سيحدث وبالنوايا الخفية، ومع ذلك قررت الاستمرار في خوض التجربة، والسبب هو مكسب واكتشاف ونصيحة.
المكسب المتمثل في خوض تجربة سينمائية واقعية تتمتع بالتفاصيل والعُرب الإنسانية والإسقاطات العاطفية، والاكتشاف المتمثل في القدرة على تحويل الواقع والصفات الشخصية التي طالما عانيت منها كبشر إنسانيا، وهو التركيز في تفاصيل ودقائق البشر ومواقفهم وتحويلها إلى صفة وميزة. ولكن ما أهمية ذلك؟
الاكتشاف يكمن فيما توصلت إليه من عشرتي لعام 2016 الغنية، فقد جعلتني أصل لأبهى فرص ترجمة التجارب السيئة، تسليط الضوء على الذات، والتأكيد واكتشاف المزيد مما يستحقه الشخص بالتأسيس على عمله ومجرد شعوره بالإنجاز (راجع مقال 2016.. طب إيه؟) ذلك الشعور الذي لا يفقد دقة مقياسه سوى \”بالإصرار\” على الأوهام والتبريرات، وصولا لأهم ما منحتني.. بل ما انتزعته من عام 2016، وهو نصيحتي للصديقين:
لا تعبث مع كاتب، فهو يستقي من تجاربه ليملأ عطش سطوره.. العطش الذي طالما كان دافعا لاستمرارية بقائي على صداقتي بكما، لعلمي منذ الوهلة الأولى أنكما ستمنحاني بتركيباتكم ومواقفكم مادة غنية جدا للكتابة، وكما تلفظ صديق \”مي.. في ناس نكتب عنها، لكن مانعاشرهاش\”.
فأنتما تشبهان عام 2016 للغاية.. فهي تظل تلاصق من يعاود أخطاءه.. تبقي عليه كما الحبيبة حتى يستفيد ويتعلم ويخرج بمكتسباته، لكنها تختلف عنكما في أنها هي من تترك من يفهمها ويتعلم من أخطائه فيها.. هي لئيمة مدبِرة متألقة في الجذب والعناق في بدايتها، ونهاياتها مفتوحة لمدعي دور الضحية وتشتيت \”كراكيبه\”، فتظل ملاصقة له معاودة لذاتها كل عام، أما من يكتشفها على نواياها، فإنه يودعها فخورا: \”روحي للي حابتيه\”!