مي فرج تكتب: ٢٠١٦.. طب إيه؟!

\”خشي برجلك اليمين يا غالية\”:

كانت أولى الدعوات والأماني المشتركة بين جيلنا بأكمله منذ مستهل شهر سبتمبر من عام 2015.. ذلك العام الذي رآه الجميع بعين القبح والتشاؤم، بل والإحباط، ولكنه كان بائسا بنكهة كوميدية كـ\”تصبيرة على ما تفرج\” على حد تعبير.. تعبيرنا جميعا!

\”هاودنا\”، \”دلعنا\” بل وترجينا عام 2016 ليكون أفضل، أقل صدمات، ومحّملا بالقليل من المفاجآت السارة، فحالة الإحباط أو السلبية العامة التي كانت تحيط بنا جميعا مبعثها اصطدام كافة أو-على سبيل التفاؤل– بعض من خططنا وتوقعاتنا بالواقع! نعم كنا نعلم الواقع وعلى هذا الأساس وضعنا الخطط على الورق وبدأنا عمليا بوضع حجر أساس أحلامنا.

ولكن ما كان يخفى علينا هو رعرعة وتشييد واقع آخر أكثر غموضا، لا منطقية وتآمرا.. هو الواقع الذي تغذى على بذور ذات المفاهيم المجتمعية التي كانت تدرس لنا ونتربى عليها، ولكن بنسخته اللئيمة وليست الرقيقة النقية.. تلك النسخة التي انشغلنا بدراستها وتعلمها والاقتناع بها بشغف بين جدران بيوتنا، فصولنا الدراسية وحتى وصولا لجدران مدرجات ومهاجع الجامعات، وذلك الطالب الواعي منا من كان يخطف من عمر المحاضرة الدراسية لحظات لينظر من خارج شرفة القاعة التي يجلس بها ليرى النسخة اللئيمة من الواقع التي كانت تربو خارجا.

كان يقاطعه الأستاذ المحاضر: إنت يا بني آدم.. بُص لي هنا.. هتمتحن في اللي باقوله ولا في اللي برة؟

ولكن إن تركه الأستاذ حتى طالت نظرات الطالب المسروقة للخارج، لوجد قوات الأمن التي تداهم حرم الجامعة مهرولة وراء الطلاب المتظاهرين بحبس زملائهم بدون تهمة \”منطقية\”. ولكن أسفا قد انتبه الطالب لشرح أستاذه حتى ينحج في امتحانه الذي اجتهد مرتين.. الأولى في الإنصات لمحاكي إنجازات الأستاذ الأكاديمية، والثانية في دراسة بحث الأستاذ وتفكيك شفرات سرده اللغوي \”المخترع\” لمادته العلمية.

ولكن هل نجح الطالب في الإمتحان؟

الإجابة باختصار تكمن في الفارق بين الواقع اللئيم والرقيق، من هنا بدأ الطالب باكتشاف أن \”اللي له ظهر مايتضربش على بطنه\”، \”المفروض تتعب كتير وتكسب أكتر.. طب بتكسب كتير؟ لا باتعب بس\”، مرورا بـ\”لومانتاش قادر على إنك تتصدى لمشاكل البلد وتنجزها بأفكااااار مش بإمكانيات…\”، اصطداما بـ\”صبح على مصر بجنيه\”، وصولا لـ\”اللهم لا تحرمنا المرور من باب صالة المغادرين\”!

تلك السطور لا تعبر عن أزمة التعليم في مصر ولا الوضع الاقتصادي أو حتى أسلوب الإدارة السياسية بها.. تلك السطور تعبر عن كل هذا وأكثر بس انا بأستهبل!

ولكن لم يكن هذا المبعث لانتفاضتي من مقعدي نحو اللاب توب.. السبب هو في كم \”الأنتخة\” الخاصة بطموح الجيل الحالي من الشباب المصري، والعجيب أنه مستمر في كفاحه، يستيقظ لينشر tweet بعنوان: \”حسبنا الله ونعم الوكيل\”، وبعد لحظة ينتفض ليتجه لعمله أو مشاويره الحكومية أو حتى مع القطاع الخاص على أمل أن ينتهي اليوم بإنجاز ما، حتى وإن تضاءل هذا الأمل بشكل طردي مع زيادة عدد الخطابات الرئاسية والتوجيهية من الجيل الأكبر مع كامل احترامنا لهم (والمرة دي مش باستهبل)!
نفس الشاب في زحمة أكتوبر، الدائري، صلاح سالم أو عطلة مترو المرج أو حلوان أو حتى خط المطار إن تلقى جملة \”يا عم طنش.. اللي متمرمط عشانه مش هيحصل\”، يضخ فيه من طاقة الدفاع الكلامية لا تضاهي جزيئة من طاقته التي يعمل بها في سبيل زحزحة صخرة العوائق أمامه.

بس لما المترو يشتغل والتشريفة تخلص في صلاح سالم بالإستعانة بنجوم إف إم، أوالـSound Cloud!
\”مافيش صاحب بيتصاحب\\ آه لو لعبت يا زهر\”:

أحد أسباب ما يحياه الجيل الحالي من ضغط أو طاقة سلبية هو الأصدقاء والعلاقات، ولكن تلك المرة هذه الطاقة غير محّملة بأي طابع كوميدي، فثبت عمليا واجتماعيا -وليس علميا- أن عام 2016 يحصد عددا كبيرا من الصداقات الممزقة والعلاقات التي تنتهي نهايات فجائية غريبة وغير طيبة، قد تأخذ طابع الملل، اختلاف وجهات النظر، التغيير السيكولوجي عقب التجارب، وصولا إلى الخيانة!

نعم.. لقد صدمنا كثيرا في أصدقائنا، أقاربنا، زملائنا وأي من أعزائنا على اختلاف طبيعة وأسباب وجودهم في يومنا أو شهرنا أو حتى السنة بأكملها.

سطوري الآتية أرصدها من واقع تجارب شخصية وخاصة بي، فعام 2016 كان بمثابة تجربة مكثفة غنية مجهدة ومستعجلة، نظرا لمروري بها في سني المبكر هذا، فعندما يجتمع في عامك الذي يعد العام الأول لبدء ممارستك الفعلية لطريقك المهني مباشرة بعد التخرج، الطريق الذي تنتهجه في الخارج بحثا عن خطوة منجزة مستقرة كأساس للارتكاز عليها سعيا وراء خطوات تالية ثابتة، فكان من الطبيعي مع صعوبة هكذا طريق وفترة أن تضيء وأنت تشعر بهبة الله الطيبة، بل الغنية بالطيبة التي يمنحها لك على هيئة أصدقاء كثيرين جدد مختلفين ومفعمين بروح خاصة.. ربما.

قابلت الكثير، مختلف الأعمار، الأحلام، المهن، الثقافات، الوجوه والخبرات.. صادقني الطبيب، المحامي والمحامية، المغنية، الناشط السياسي، المحاسبة والثورية، المخرج، الكاتب، المدير والممثل.. كل له قصته التي تحمل الصالح والطالح، ولكن في وجوههم الصالح وفي ودهم الطيبة والنقاء.
ولكن الجانب الآخر من النهر كان يصرخ بنضج أملا في أن تسمعه وأن تفيق على تلك الصديقة التي تسعى للتقرب منك أملا في الحصول منك على مصلحة في مشروعها الخاص، والآخر الذي سعى لتدمير حصيلة عملك نكاية في ما تحياه من طموح ربيتموه في خيالاتكم الصديقة المشتركة ورآك تنفذه وهو ساكن لا يجتهد، الصديق الذي كان يهرول للحديث بالسوء عن صديق آخر في غيابه أمامك، وفي ظهرك يبني من المكائد العوازل في سبيل انفراده بهذا الصديق وحده وإظهار الكارت الأحمر لك، مرورا بالصديق الذي طالما شعرت بآلامه دون أن يتفوه، فاستكان ومال على ظهرك بقسوة وقت ضيقك لأن ببساطة أزمتك أصابته بالملل!
من المحتمل أن لم ينلك من الحظ الغني جانبا، فلم تمر بكل أو أي من ذلك، لأن هذه الصدمات منفردة لا تكون جديرة بالتفكير أو التوقف، مجملها قد يسبب الضيق المؤقت اللحظي، ولكن الحظ يكمن في سرعة قراءتها، فبالنسبة لي تلك الصداقات الزائفة –بالرغم من أن البعض منها كانت صداقات ذات عمر السنوات– كانت سببا قويا لإرتفاع معدل النظر والاستقراء لدى حدسي على المستوى المهني والشخصي، ولكن بالرغم من ذلك فنحن بشر نختلف في قراءاتنا وفي أنواع الدروس التي نتعظ منها أو نتذكرها لنتعلم قراءة لغة الدنيا.
لكن حظي الوافر لم يقف عد هذا الحد، بل استمر للاصعب.
\”حوار في حضرة العجوز\”
شتاء ديسمبر السقيع لعام 2015، تلك المرة الأولى التي قابلت فيها أحد الأصدقاء وجها لوجه بعد صداقة وبداية مشروع عمل استمر لشهور على مسافة القارتين السمراء والصفراء، قد يكون أحد الأيام التي تحفظها ذاكرتي لما تتمتع به من تميز يكمن في المكان، الزمان، الأشخاص والسبب.
فالمكان كان غير مميز بالمرة ولكن تاريخه يدعو للفخر ببلدك، إنجازات أبنائها الراحلين وقاماتها ولو كانت راحلة هي أيضا، هذا التاريخ الذي يتعارض مع رائحة دخان الشيشة المنبعث من المقاهي، رائحة التراب المحتضن لأهم الكتب القيمة في المكتبات المرتكنة في زوايا حزينة، يزاحمها بارات وخمارات الخواجة فلان بكل بجاحة واستفحال.. البجاحة التي زاحمت أيضا أحد الشوارع الجانبية لهدى شعراوي لتصطدم بمشهد تقابل جامع مع أحد الخمارات ليفصل بينهما بضع سنتمترات دون إنتفاضة من أي من الطرفين.. المصلي أو حتى التاجر المسكر.
نعم.. أتحدث عن وسط البلد في قلب القاهرة، تلك العجوز التي شابها العدوان عندما تتذكر \”عبد المنعم رياض\”، بل هي شائبة منذ الاحتلال الإنجليزي والذي لم يعد لها شبابها حتى وإن هربت منها ووجدت نفسك فيما يذكرك بانتصارنا سواء على الإنجليز أو المصريين حيث ميدان \”التحرير\”. ولكن عد أدراجك وارجع للعجوز، فهي تصافحك بمودة في محاولة للتصابي منها بإحتضانها لمسرح روابط، دار ميريت القديم، سينما زاوية أو حتى لجرافيتي محمد محمود، ولا تنس أن تصطدم بدار القضائي العالي بأنواره الخضراء ليلا وجدرانه الصفراء نهارا على الرغم من أن في الأخضر دلالة على العمل بجد والإثمار، وهو وظيفة العدل الذي يعمل نهارا و(يفترض) ألا ينام حتى ليلا!
كل ذلك كان موضع حديثي مع هذا الصديق، بل وموضع تعليق وسرد لرأي كلا الطرفين حول تلك المنطقة التي بها امل ونقاوة مختبأة خوفا من تلك السوادات والشرور. وهو ما شعرت به حرفيا أثناء تجوالي بتلك المنطقة، شعرت بصرخة العجوز لنا: \”أغيثوني.. كنتوا فين من بدري؟\”

بالرغم من عدم إيماني برياضة التأمل أو حتى التحاور مع الطبيعة أو الجماد، ولكن صوت العجوز كان مسموعا بوضوح بالنسبة لي ولهذا الصديق، وذلك على حد ما كان يدعي الأخير!

فهو إنسان قد ترى فيه الطيبة والإنسانية والتحسر على احتلال الشر محل الخيرات والود، ولكن رجوعا لعنوان مقالنا وهو أن \”2016\” قد علمتني أن المباديء تكتسب لا تكتب على الـFacebook، المباديء والقيم ترصد في خانة الإيمان عندما تصر أنت عليها إذا اصطدمت بمضاداتها.

فكيف لإنسان يلدغ من جحر أصدقاء السوء الذين يتصادقون معك لتخريب مكتسباته، أن يعمل هو الآخر على مساعدتهم لفقد تلك المكتسبات؟!

إن كان للصداقة علينا حق في الإنصات والصبر وحسن الظن والدعم للصديق، ففقداني لذلك الصديق قد علمني أن أقيم ما يمكن أن يصل إليه الإنسان هو أن الصداقة أسمى العلاقات الإنسانية، وهناك دائما من يطمع في الخير بين الصديقين، هناك من يسعى للدخول طرفا في صداقتك ويفشل فيظل يدس السم حتى تتحلل هكذا صداقة، وإن جاهدت لمص السم للحفاظ على نقاوة صداقتك فوجدت صديقك يقف شاهدا وأنت تمص السم وحدك ويحرك ساكنا، فاعلم أن الوقت قد حان حتى تترك السم ينهش هكذا صداقة، فهي بالنسبة لك لا يمكن أن تساوي سوى جثة لا يحل لها الدفن، أما انت فنلت شرف الطبيب المقاتل للنهاية!
أتود أن تثمر موسوعتك الاجتماعية والإنسانية بالمزيد من الطعنات؟ فما بالك في أن من دس السم هو صديق مشترك ومقرب لكليكما؟
(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top