مي سعيد تكتب: محاولات البحث عن هوية

يبدو الأمر أشبه بعملية تحليل للمواد المكونة لجسد الإنسان والذى ينتج عنها دائمًا النتيجة ذاتها، فلسوف نكتشف فى كل مرة نحلل تلك المواد أن الكربون الطبيعى هو الذى تشكل منه جميع تلك الأجسام، فالأمر لا يختلف كثيرًا من وجهة نظر علماء الأنثربولوجى عند تحليل سلوك المجتمعات المختلفة، فإن تحليل السلوك الخاص بكل جماعة عاشت فى نفس المنطقة وتعرضت لنفس المناخ والملابسات المختلفة وأنواع الغذاء والصراعات، ينتج عنها دائمًا عنصر ما مشترك لا يمكننا أن نعول على تسببه فى سلوك تلك المجتمعات، بقدر ما يمكننا من خلاله معرفة العامل المشترك الذى أدى بتلك المجتمعات لأن تحمل تلك الصفات أو تُقدم على مثل تلك الأفعال، وهى التصرفات العادية من وجهة نظر أبناء المجتمع الواحد والتى قد تبدو غريبة وغير مفهومة بين أبناء مجتمع آخر لم يمروا بذات الظروف والملابسات ولم يتعرضوا لنفس الصراعات.

وإذا ما حاولنا القياس إنطلاقًا من هذه النظرية، فى محاولة لتحليل وفهم التراث الإسلامى العنيف، والسر وراء صعوبة قبوله من مجتمعات مختلفة إسلامية أو غير إسلامية بعيدًا عن الجزيرة العربية حيث نشأته، سنجد أن الإجابة فى غاية البساطة، حيث إن هذا التراث الدموى العنيف الذى يُصَّدر الكثير من مفاهيم البداوة والقسوة لا يتماشى مع اللاشعور الجمعى لمجتمعات أخرى لم تتعرض للظروف ذاتها ولا تملك النفسية التى يملكها من كتب هذا التراث وصدقه وصدره للمجتمعات المختلفة بعد ذلك.

ورغم انتشار الدين الإسلامى وسط مجتمعات لها جذور متعددة وأصول مختلفة، إلا أن ما حدث لاحقًا وهو نوع من المصادفة، كان أن هذه المجتمعات لا تقرأ ولا تعرف عن الدين سوى العبادات والعادات المتوارثة، وتظل تورثها كما هى دون معرفة أو قراءة، وبالطبع يمكننا استثناء قلة فى كل مجتمع من تلك المجتمعات مهتمة بالقراءة والبحث، وهو ما خلق على مر العصور نوعا من الصراع بين من يحاول التنوير للآخرين ومحاولة إرشادهم لكل ما يحمله التراث من أمور تخالف الفطرة وتصطدم باللاشعور الجمعى ولا تتسق معه، وبين العامة غير المصدقين أن الكتب التى يؤمنون بها تحمل كل هذه الجرعات من العنف والدموية ورفض الآخر وإهدار إنسانيته ودمه فى كثير من الأحيان.

ولا أنسى أبدًا أن مناقشاتي الأولى حول البخارى كنت أتعمد أن أقوم بها بطريقة معكوسة، فلا أذكر البخارى فى البداية، لكن أذكر المتن لأحد الأحاديث أو الروايات التى جاءت فى كتابه، ثم أطرح على من يناقشنى سؤال ما إذا كانت فطرته تقبل مثل هذا الكلام أو يعقله، فيرفضه جملة وتفصيلًا، ثم تأتي المفاجأة عندما أخبره أن ما أخبرته به لتوي ورفضه واستنكره هو فى حقيقة الأمر حديث ورد فى البخارى وأنه صحيح بمعايير أهل الحديث!

كانت أغلب ردود الأفعال التى أحصل عليها بعد تلك المفاجأة غالبًا ما تكون دهشة مصحوبة بصمت وعلامات من الخجل، ولن أنسى رد فعل أمي بعد أن مارست ذات المحاولة معها، فوجدتها تصيح فى وجهى معلنة أن النسخة التى أحملها أنا من البخارى مزورة وأنها ليست الصحيحة الحقيقية، وأنها مؤامرة على الإسلام والهدف منها هو النيل منه ومحاولة تشويهه!

لكن هذا النوع من الرفض لما تحمله كتب التراث من متون وروايات يأتي دائمًا منعزلًا عن معرفة مصدره، فلا يمكن أن تخبر المسلم العادى بواحدة من الروايات الدموية مثل رواية مقتل كعب ابن الأشرف وعصماء بنت مروان وسعد بن عبادة وغيرهم الكثيرين، إلا واستنكرها تمامًا ورفضها، لكنه يتردد فى هذا الرفض إذا ما علم أن مصدر تلك الروايات الدموية هو كتب التراث من سيرة وحديث وفقه، لأن ما يحمله العقل الجمعى من تقديس لهذه الكتب دون معرفة لما تحويه من روايات وأحاديث وأحكام فقهية، هو فى حقيقة الأمر هالة من الوهم تحمى بضعة كتب والإسلام غير مسؤول عنها وعن ما جاء بها على الإطلاق، لكنها أُلحقت به وصارت جزءا مقدسا منه دون وعى.

لكن الأغرب والأخطر من ذلك، هم هؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم علماء الدين والذين يمارسون دورا مبنيٍ على المصلحة من ترسيخ قداسة كتب التراث رغم قراءتهم ودراستهم لكل ما تحمل من نصوص دموية عنيفة غير مبررة ولا تمت لمبادئ الدين بصلة، بل إنها تمارس ضررا ممتد المفعول على هذا الدين وعلى الأجيال الجديدة من معتنقيه، حيث أصبحوا منفتحين على عالم العم جوجل والوسائط الاجتماعية المختلفة التى تحمل الإجابات، دون الحاجة لوجود الكتب فى شكلها القديم.

فلا داعى لأن تمتلك كتاب البخارى على سبيل المثال لتعرف ما جاء فيه من أحاديث غريبة ومخالفة للفطرة، وكذلك يمكننا القياس على باقى كتب التراث وصفحاتها المشرعة على مزيد من الخيبات التى أصبح يمكنك أن تعرفها وتجدها بضغطة زر واحدة.. فمتى نصحو من سباتنا العميق؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top