في أعقاب أي واقعة مؤسفة مثل حادث التحرش الجنسي بفتاة الزقازيق الأخير، تنتشر البكائيات على الزمن المسخ الذي نعيشه، وتلوك الأفواه علكة التبريرات الباهتة والنداءات المكررة عن تفعيل القانون وحجب المواقع الإباحية ورتق الخطاب الديني، لمواجهة هذا الطارئ.
ويؤمن الجميع أن الحادث غريب على طبيعتنا ويتبارى المحللون في كشف مصدر الإشعاع البرئ.
رغم أن القارئ المتفحص لتاريخنا الاجتماعي يلحظ تكرار مشاكلنا حد المسخرة. حتى التحرش الجنسي! ففي كتاب طريف، صدر في طبعته الأولى عام ١٩٦٨، بعنوان \”ترام القاهرة\” لكاتبه محمد سيد كيلاني، يرصد الظواهر الاجتماعية المصاحبة لدخول القاهرة العصر الترامي -نسبة إلى الترام- في بدايات القرن العشرين. ومن ضمن ما يرصد، ما كتبته الصحف في هذا الوقت عن التحرش الجنسي.
تقول صحيفة \”المقطم\” \”١٩-٨-١٨٩٨\”:
\”وما يفعله بعض أدبائنا الذين شاركوا الغواني في لباسهن، والمخنثين في أخلاقهم، من ارتيادهم الطرقات والمنتديات، وهم كلما رأوا سيدة عارضوها في طريقها، وأسمعوها من بذاءة أقوالهم ما يحمر له وجه كل حر خجلا. وأنكى من ذلك وأشد وقاحة شرائهم الصور القبيحة وإبرازها أمام كل مخدرة يلتقون بها، فتأخذ تلك المسكينة الرعدة من هذه السفالة. ولا يزالون في أثرها حتى تلج حانوتا، أو تركب مركبة تخلصا من شرهم، فيغربوا إذ ذاك في الضحك. هؤلاء غير رجال وخط الشيب رأسهم، تجدهم عصارى كل يوم في محطة الكهرباء العمومية يركبون القطار ذهابا وجيئة، وليس لهم من أرب سوى التهكم وإبداء سفالتهم لكل امرأة يجدونها في القطار وحدها ولا رجل معها\”
وفي صحيفة \”المؤيد\” \”٣٠-١٠-١٩٠٦\”:
\”إن المرأة إذا سارت تمد إليها الأيادي، وتمسك بتلك السواعد المكشوفة، وتداعب بصنوف المداعبة. وإن الواحدة لا يكون من شأنها -إذا جرى لها ذلك التعرض- إلا الابتسام\”
وتورد \”المؤيد\” أيضا في \”٣٠-١٠-١٩٠٦\”
\”إن الرجل يمسك من المرأة مكانا مستورا، ويبوء بالخزي والعار\”
وتحت عنوان \”التهتك في مصر وتلافيه\”، جاء في مجلة \”المنار \”٢٥-٩-١٩٠٠\”:
\”أظن أنه لا يوجد بلد إسلامي، أو غير إسلامي، فيه من التهتك ما يداني ما في مصر، لاسيما القاهرة. أرى الرجال من جميع الطبقات يتعرضون لكل من عليها مسحة من الجمال، يغازلونها ويناغونها، وإن لم يروا منها عينا خائنة، أو إشارات شائنة. أرى من الرجال من يمد يده إلى المرأة المتبرقعة في الشارع، كأنما هي خليلته في زاوية بيته. أرى المرأة تطوف في مثل شارع الغورية، فكأنما هي المراد بقول الشاعر:
\”كرة طرحت بصوالجة فتلقفها رجل لرجل\”
والسؤال: هل يختلف ما سجلته صحف القاهرة منذ مائة عام عن الآن؟
إن كتب التاريخ التي اهتمت برصد الواقع الاجتماعي بعيدا عن صراعات السياسة والسلطة مليئة بتلك المشاكل التي لازالت تملأ واقعنا ونتعامل معها على أنها طارئ.
مثلًا، اللورد كرومر شكّل لجنة لبحث أزمة القمامة في شوارع القاهرة، طبيب مصري يكتب في الأربعينيات محذرا من الإعلانات الكاذبة للمقويات الجنسية، صحيفة الأهرام في الأربعينيات تكتب عن حادث نتيجة مزلقان قطار وغيرها الكثير.
ربما حان وقت تكسير أسطورة الماضي الذهبي وطبيعتنا النقية، والبحث بجد وبشكل علمي في جذور ظاهرة التحرش الجنسي في الشخصية المصرية، بعيدًا عن الأسباب الواهية والخوف من الخوض في المحاذير، علّ الأزمة تحل فعلا لو نظرنا في مرآة دوريان جراي.