بات الجميع في مصر يعرفون – أو هكذا يُفترض – أن مشكلات مصر أكبر وأعقد من تعليقها على شماعة فصيل واحد أو شخصنتها في شخص واحد، بيد أن الواقع العملي ينفي هذا الافتراض ويُكذبه، وهو ما يجعل المرء مضطرا للتذكير بالبديهيات وبما كان يجب أن يكون معلوما من الواقع بالضرورة.
استعرض أمامي مواقف المتشنجين من مؤيدي السيسي وهم يُحمّلون الإخوان مسئولية كل المشكلات وكل الجرائم التي حدثت في تاريخ مصر، ولا أجدهم مختلفين كثيرا عن الإخوان ومن على شاكلتهم ممن يشخصنون كل مشكلات ومصائب مصر في عبارة \”سيسي خائن (بتفخيم الخاء)، سيسي قاتل\”، وبين أولئك وهؤلاء نجد فريقا من\”الثوريين\” يشخصّون مشكلة مصر – ويشخصنونها – بأنها مبارك وآلِه وأصحابه أجمعين، والمضحك أن السلطة نفسها تلعب نفس اللعبة، فلو لم يقتنع الجمهور بأن مصيبة ما وراؤها الإخوان، فلنخبرهم إذن أنها تركة فساد مبارك.. منه لله وكده.
منذ ٢٠٠٥ ونحن – كمعارضة لمبارك ونظامه – نتبنى موقفا مناهضا لمبارك وأسلوب حكمه هو وعائلته وشلة المنتفعين حوله، وكان من ثم طبيعيا أن نهتف \”يسقط يسقط حسني مبارك\” كشعار أساسي لموقفنا ومطلبنا ومسعانا، ولنكن صرحاء أن هذا الموقف الذي كان يلخص مشكلات مصر في مبارك وحكمه المزمن بكل مسالبه، ومن ثم تصور أن الحل المبدئي لمشكلات مصر هو إزاحة مبارك، هذا الموقف أثبتت الأحداث أنه بعيد جدا عن الصحة.. ليس لأن مبارك – لا سمح الله – كويس، ولا لأن حكمه كان رشيدا مثلا، لكن لأن ما تحت سطح الواقع السياسي المصري كان أعقد بكثير من أن يكون مبارك – وحده – هو المشكلة أو أن الإطاحة به – وحدها – هي الحل.
ثمة حالة مثيرة للتعجب نراها بوضوح في كل مرة يطل علينا فيها – إعلاميا – مبارك أو أحد رموز نظام حكمه، أو حتى في أي حدث أو حديث لا يتم فيه شيطنة مبارك ونظامه بالقدر الكافي والشافي.. هي حالة معينة في صفوف \”الثوريين\” ومن يمالئهم أو من يستفيدون من مواقفهم، وهي حالة يختلط فيها الإنزعاج بالهري والغيظ والغضب والحسرة والقهرة، وغرابة هذه الحالة أنها لا تحدث يوميا ولا هي مستمرة باستمرار القمع والإنتهاكات اليومية والمستمرة لسلطة النظام الحالي اللي مفروض مستند على شرعية \”ثورة\” أطاحت بمبارك وأخرى أطاحت بخلفه الإسلامي العبيط.
أول أمس تحدث مبارك عبر الهاتف لبرنامج يقدمه إعلامي تابع للسلطة معروف عنه تأييده لمبارك.. تحدث مبارك وكأنه يخطب في الجماهير محاولا تجميل صورته أمام الشعب والتاريخ – في ذكرى تحرير سيناء – دون أن ينسى إعلان تأييده لنظام الحكم الحالي، وأن يدعو الشعب لدعم الرئيس الحالي والالتفاف حوله. وطبعا كما هو متوقع ظهرت أعراض الحالة العجيبة في أعقاب المكالمة.. غضب وإنزعاج وهري وغيظ وقهرة وحسرة.
اتفهم جيدا حالة الإنكار التي يحياها بعض من شاركوا في الثمانية عشر يوما الأولى للثورة، التي انتهت بتخلي مبارك عن السلطة للمجلس العسكري، عندما يواجهون واقع أن شيئا ما لم يتغير بعد إزاحة مبارك من المشهد، وكون الأمور بعد إزاحته آلت إلى الأسوأ.. هؤلاء شافوا بعينيهم زملاءهم ورفاقهم وهم بيتقتلوا أو بيفقدوا عيونهم أو بيصابوا بإصابات بليغة، ويصعب عليهم جدا مواجهة واقع أن هذه التضحيات الثمينة ذهبت عبثا وبلا مقابل ودون إنتاج تغيير تحرري ديمقراطي يستحق التضحيات التي قدمت من أجله، لكن دعونا نتفق على أن الإنكار لا يفيد، رغم أنه قد يحمينا أحيانا من الانهيار النفسي.
لا يحتاج المرء لأن يتخرج من كلية الطب ليعرف أن العلاج الجيد يعتمد بالأساس على التشخيص الجيد، وفي حالتنا هذه التشخيص الخاطئ للمشكلة، كان سببا رئيسيا في فشل العلاج، بل وتدهور حالة الوطن المريض.
كنت أظن أن أحد مفاتيح فهم ما حدث من فشل وإجهاض للحل الثوري هو ما حدث في الميدان من تخفيض سقف هدف التغيير لدى \”الثوار\” من \”إسقاط النظام\” إلى \”إسقاط الرئيس\”، لكنني استوعبت لاحقا أن الأمر لم يكن تخفيضا للسقف ولا حاجة، بل كان غالبا توضيحا متعمدا لكون مشكلة \”الثوار\” هي فقط مع الرئيس وليس مع \”النظام\” الذي يعرف الجميع أن \”نواته الصلبة\” – منذ تأسيس الجمهورية بعد يوليو ١٩٥٢ – هي المؤسسة العسكرية.. بدا الأمر وكأن \”ثوار الميدان\” – أو قطاعا فاعلا ومؤثرا بينهم – يتعمدون توصيل رسالة واضحة للنظام (بمعناه العميق) والدولة أنها ليست ثورة بجد ضد الجمهورية، إنما يريدونها \”ثورة\” داخل الجمهورية، وهو ما لا ترفضه المؤسسة العسكرية، بل في الواقع لديها أسبابها لدعمه حتى من قبل ٢٠١١، بل وربما منذ ٢٠٠٤ عندما بدأت حركة معارضة توريث السلطة لجمال مبارك.. وقتها بالمناسبة لم يكن الترويج لخلاص يأتِ من داخل الجيش فضيحة ولا عيبة في حق من يفعله!
عندما هتف فريق مؤثر من \”ثوار الميدان\”: \”الجيش والشعب إيد واحدة\” بات واضحا سقف \”الثورة\” المتاح.. أن تضحي جمهورية يوليو العجوز بالرئيس العجوز الذي بات حملا ثقيلا على الجمهورية ويهدد مصالحها، وطبعا كله بالإرادة الشعبية وتحت ضغط الملايين المحتشدة في الشوارع، ومن ثم فهي \”ثورة\” وليست \”انقلابا\”، وهو ما سيتكرر ثانية بعدها بسنتين وهذه قصة أخرى.
إن جدلية \”ثورة أم انقلاب\” تحولت لحديث ممل مزعج وغير ذي جدوى، لكن من المفيد أن نشير إلى أنه بغض النظر عن المسميات، فالأكيد أن الإجراء الذي حدث في ١١ فبراير هو ذاته (مع بعض الاختلافات الشكلية) نفس ما حدث في ٣ يوليو، وفي الحالتين لم يستولِ الجيش على السلطة، فهو أصلا صاحب السلطة ومؤسس الجمهورية ومركزها منذ ١٩٥٢، ولم يترك السلطة قط، إنما فقط عاد لواجهة السلطة بشكل مباشر ليقوم من ثم بتسليمها لمن يشاء بما يحمي مصالح الجمهورية ويجدد قدرتها على الحياة.
يروج بعض \”الثوريين\” – ربما بحسن نية أو قلة وعي – لفكرة ساذجة ترى أن الثورة بالضرورة حل جيد وناجح ودليل ذلك أننا \”غيرنا ٥ رؤساء في ٣ سنوات\”!، وأن \”الثورة مستمرة\” بمعنى أن الرئيس اللي ما يعجبناش أو ما يمشيش كويس لازم يرحل ونجيب غيره وكده! الكارثة أن هذا النمط من التفكير سائد ومتفش وسط من يفترض فيهم الثقافة والوعي، هؤلاء نجدهم يتوعدون الرئيس الحالي بأنه إن لم يحقق أهداف الثورة وكده، سيجب عليه هو الآخر أن يرحل وأن الشعب اللي عمل ثورتين عادي جدا يعمل التالتة! والأمر على هذا النسق يؤدي بِنَا حقاً إلى الدوران في دائرة مفرغة لا تنكسر.
أتصور أن هذه الدائرة المفرغة ينبغي أن تقودنا لمراجعة أفكارنا الأساسية وتصوراتنا حول \”الحل الثوري\” أصلا، والوقوف على جدواه واحتمالات نجاحه في تحقيق تغيير تحرري ديمقراطي في زماننا الحالي.
الثورة مش مجرد تغيير رئيس.. الثورة تغيير جذري يرتبط بالضرورة بالإطاحة بالنواة الصلبة للسلطة، وليس فقط تغيير واجهتها.. ثورة ضد نظام عسكري لا ترى المؤسسة العسكرية خصما لها يجب إسقاطه، بل حليفا لها لتحقيق مطالبها.. هي بالطبع ليست ثورة، إنما يصح أن تكون حركة إصلاحية تهدف لتغيير مرحلي جزئي غير جذري.
أن تكون إصلاحيا تسعى للتغيير باستخدام آليات السياسة، التي هي فن الممكن والنضال السلمي وأنشطة المجتمع المدني، فهذا ليس عيبا، بل ربما يكون هذا هو الشيء الوحيد المجدي والمتاح عمله في بلد مثل مصر، لكن علينا أن نتذكر أن الإصلاح والتغيير المحدود الذي يمكن أن يترتب عليه، لا يستحق أن يموت لأجله أحد.. أن تؤسس أو أن تقود أو في حركة إصلاحية وتسميها ثورة فهذه جريمة! فأنت – في حقيقة الأمر – تروج لكون دعوتك الإصلاحية ثورة، وأن هدفها \”إسقاط النظام\”، فيصدق البعض أنها كذلك، بما يجعلهم يرونها تستحق التضحية بحياتهم أو مستقبلهم أو حريتهم أو مصالحهم، بينما أنت تعلم أن أقصى ما يمكنك تحقيقه أن تجعل النظام يشيل موظف ويجيب غيره المرة تلو الأخرى.
الإصلاح ولعب السياسة في أوقات الثورات، بينما يضحي المئات بحياتهم ثمنا لتغيير جذري هو خيانة وانتهازية ومتاجرة بالدماء.. رأينا جميعا البعض وهم يمارسونها سواء أثناء التمنتاشر يوم أو بعدها، لكن في الوقت ذاته علينا الآن أن نستفيق وندرك أن معطيات العصر الحالي لا تسمح بنجاح أي ثورة بالمفهوم الجذري، ولنا في النموذج الليبي والسوري واليمني أدل مثال.
ربما علينا أن نتجاوز الماضي وأن نتوقف عن جلد ذواتنا فيما أخطأنا أو أجرمنا فيه، وفي الوقت ذاته نراجع أنفسنا ونعيد صياغة أهدافنا، فلو أن الإصلاح التدريجي الجزئي هو سقف التغيير الوحيد المتاح، فلنواجه ذلك ونتعامل معه كواقع، ولو أن التغيير الثوري الجذري الذي سيضطرنا بالضرورة إلى مواجهة سلطوية الأنظمة العسكرية وآلتها المسلحة هو أمر مستحيل تنفيذه بيد دعاة تغيير تحرري ديمقراطي، فلنواجه ذلك أيضا ونتعامل معه كواقع.. لو أنك تجد ذلك صعبا، استمر إذن في إنكار الواقع واكتفِ بأن تشتم في مبارك أو الإخوان أو السيسي بكرة وعشية.. لو ده يريحك.