مينا ذكري يكتب: عن الفقر اللي – قال إيه – مش عيب!

الحديث عن تشوهات طفولتنا حديث موجع للقلب ويفضل المرء تجنب الخوض فيه، فكثير من الصراعات الفكرية والنفسية التي لاأزال أعاني منها وأحاول – بكل الطرق- تجاوزها، هي نتاج مباشر وغير مباشر لتشويه وتخريب حدث في طفولتي.

سأتكلم عن أحد تشوهات طفولتي الشخصية.. سأتكلم عن الفقر الذي كنّا نقول مع غيرنا إنه ليس عيبا، لكننا تربينا على إنكاره وعلى مداراته بشتى السبل، في إقرار ضمني صامت بأنه بالفعل عيب وفضيحة ونقيصة، تنتقص من قيمة الفرد والأسرة وقيمتنا كأسرة \”قدام العائلة\”.

ويبدو أن هذه سمة من سمات الشريحة العليا المتعلمة من الطبقة الوسطى التي تسعى للتشبث بأيديها وأسنانها بموقعها القريب من الطبقة الأكثر غنىً لئلا تسقط لأسفل في تصنيف \”الفقراء الغلابة\” المستحقين للمساعدة من الغير.

أبي كان مهندسا زراعيا وأمي كانت أخصائية اجتماعية، ولدي من الإخوة والأخوات أربعة.. واتعلمنا في مدارس حكومية في مدينة الفيوم حتى التحقنا بالجامعات في القاهرة.

لأننا لم نتعلم – بصدق – أن الفقر مش عيب \”وإن كان سيئا وابن ستين كلب طبعا\”، ترسخت فينا مشاعر الدونية والنقص بسبب فقرنا، فمهما حاولنا \”نلبس كويس\”، برضه مازلنا أقل من المستوى الذي تربينا على أنه \”المستوى الكويس\”. ومهما اجتهدنا في التعليم والمذاكرة، فبرضه تعليمنا \”الحكومي\” بيخلينا أقل – وبكثير – من المستوى الكويس \”وقتها كانت مدارس اللغات في القاهرة هي المستوى الكويس\”.

كوننا نعيش في \”الأقاليم\”، كان يشعرنا بالدونية والنقص في مواجهة أقاربنا الذين يعيشون في القاهرة في مستوى اجتماعي واقتصادي أعلى منا، وكنا نتحايل نحن على الواقع، لنحاول أن نعيش في مستوى قريب منه.

 

أبي كان أصلا قاهريا من شبرا وعائلته في القاهرة، لذلك كانت لهجة كلامنا مثل لهجة القاهريين، وليست كلهجة أهل الفيوم وأسلوب كلامهم الذي يسخر منه القاهريون.

الأزمة في كل ذلك أننا تربينا على الخجل من أصولنا ومن مستوانا الاجتماعي والاقتصادي.. لم نتربَّ على احترام الكفاح في الحياة رغم أننا كنّا مكافحين!

لاحقا في سن المراهقة، كان طبيعيا أن أشعر بالحنق على أهلي الذين \”قَصَّروا في حقنا ولم يفعلوا أفضل مما فعلوا\”، لكي نحيا في مستوى اجتماعي واقتصادي وتعليمي أفضل.

كم كان هذا الصراع صعبا على نفسي وقتها، ولاحقا فهمت كم كان هذا جارحا ومؤلما لأبي وأمي اللذين فعلا أكثر مما في استطاعتهما حتى يربونا كما ربونا!

كم كان موجعا لقلبي أن أعرف من أمي أن أبي مات، وهو يشعر بالتقصير في حقي وأنه لم يفعل من أجلي أفضل ما يمكن فعله!

ألا لعنة الله على صيغة أفعل التفضيل هذه! كم كان مؤلما لقلبي أني لم أجد أبدا الفرصة لأقول لأبي إني ممتن لما فعله من أجلي وإني أحترمه وأحبه كما هو وإني تعلمت الكثير من الحاجات الكويسة في الحياة منه.. لكن أبي مات دون أن يسمع مني هذا أبدا!

التقصير الوحيد الذي ارتكبه أبي وأمي في حقي، هو أنهما لم يعلمونا أن الفقر مش ذنبهم ولا ذنبنا! الخطأ الذي كان بإمكانهما تجنبه، هو توجيه طاقة غضبنا وحنقنا ضد المنظومة المشوهة في المجتمع والدولة والعائلة التي جعلتنا فقراء هكذا!

أرجوكم علموا أولادكم أن لا يخجلوا من أنفسهم ومن ظروف حياتهم، علموهم أن الحياة في مصر مقرفة بوجه عام وأن هذا ليس ذنبكم ولا ذنبهم.. علموهم أن يوجهوا طاقة غضبهم وحنقهم في المكان الصح.. ربوهم على أن الفقر نتيجة لغياب العدالة الاجتماعية ونتيجة فساد الإدارة، وليس فقط قلة الموارد.. ربوهم على احترام قيمة الكفاح والاجتهاد في الحياة.. ربوهم على الحرية وعلى حب الحياة، رغم كل قرف الأنظمة الحاكمة لكافة جوانب الحياة في مصر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top