منى يسري تكتب: عسلامة يا تونس

\"\"

حين أتيحت لي فرصة زيارة تونس، في أهم التظاهرات الثقافية التي تحتضنها الدولة التونسية \”أيام قرطاج السينمائية\”، فضولًا ما، كان رفيق هذه الرحلة، نحو بلد قريب بعيد، لا نعرف عنه سوى كلمة برشا، وأكل الهريسة الحارة، لم يكن عليّ سوى التواصل مع الأصدقاء والصديقات التونسيات ممن جمعنا عالم الفكر والأدب والسياسة، تحت سماء الفيس بوك، لتتحول اللايكات والتعليقات، إلى عناق ومصافحة وتصاور وذكريات لا تُنسى، وحين أخبرتني العديد من الصديقات أنهن عاجزات عن استقبالي في المطار، حيث تهبط طائرتي أرض قرطاج الثانية عشر منتصف الليل، ما يمنعهن عن الخروج كونهن فتيات، شعرت بأريحية بعض الشيء، نحن المصريات، لسنا في البؤس وحيدات، إلا أنني تفوقت على التونسيات والمصريات، وحلقت بطائرة بعيدا عن حدود الوطن في منتصف الليل، وسرت بجسدي نشوة انتصار لن تدوم على أرض تونس.
سرعان ما انهار انتصاري الزائف، في أول صباحاتي، أعبر طريقي في اليوم التالي تمام السابعة صباحًا، متجهة إلى قاعة المؤتمرات، لأقطع شارع (نهج) مارسيليا، إلى شارع الحبيب بورقيبة أو (الشانزليزيه) أو إن صح القول 14 چانفي كما يحب أن يسميه ثائرو تونس، ليبدأ أول الصباحات بالإندهاش الذي اعتراني حين عبرت إشارة المرور، لأجد فتاتان ينسدل الشعر الغجري فوق صدورهن الشابة، تنانير قصيرة تكشف عن رشاقة صاحبتيها، بزي الشرطة النسائية يقفن في جد، يقمن بتنظيم المرور، وإيقاف المخالفين، وتطبيق اللوائح فوق رقاب الرجال والنساء معًا، باسم القانون.
شعرت أن فخري الذي كان بالأمس صريع أقدام الفتاتين، فإذا بإحدى الصديقات مسرعة نحوي تتساءل عن سبب وقوفي، وفي لحظة من البلاهة سألتها \”بيعملوا إيه دول؟\”
فتجيب مسرعة \”ينظموا المرور! فماش (مفيش) في مصر شرطيات؟\” تسأل الصديقة.
ليأتي الرد بتلقائية لم أعهد مثلها قبلًا \”دول لو كانوا في مصر كانوا اتشرحوا!
ضحكة انتصار تحوي فخرًا، تشعر به التونسيات أينما حللن، ملأت وجه الصديقة، إلا أنني لازلت أحاول علاج فخري الزائف الذي سقط صريع أقدام الفتيات الفاتنات.
كل يوم أمضيته في تونس كان جديدًا عن سابقه، كل يوم تأتيني بالمبهرات المبهجات، لم يكن استكشافي في تونس للأماكن أو الأشياء، فلم يكن هناك ما يبهرني على مستوى الطبيعة أو الأرض وأنا القادمة من بلاد تمتلئ ربوعها بالتفاصيل المكانية والزمانية ما لم يكن لغيرها مثيل، بينما كشفت تونس عن ذاتها، وأهلها، هذا المجتمع الذي لا يمل من حب الحياة، والصعود بسقف الحرية، مُحطمًا كل آمال الشعب العربي في الصعود إليه على المستوى الاجتماعي، ولم يكن الإبهار بالأمر الجديد حين عدت من أرض المحروسة إلى مصر، وصدور قوانين جديدة تعزز مكانة المرأة وترفع قيمتها، الأمر لم يكن مجرد تحصيل حاصل، حبة في عقد لؤلؤ تنفرط تتبعها أخواتها، وها هن التونسيات من جديد، مساواة في الإرث مع الرجال، يستطعن تطليق الرجل، وتستطيع المسلمة أن تتزوج من غير المسلم والأجنبي دون أن يجلدها القانون أو تتحايل على المجتمع ومؤسسات الدولة، واعتقد أن القطار الذي ينطلق أبدًا لا يعود للخلف، وأتوقع مستقبلا، أن تسبق التونسيات نساء الأرض، ويرجع نسب الطفل إلى أمه، كما بدأ الإنسان الأول، ولا عجب إن حدث ذلك في تونس.
انتابني الذعر حين سمعت فحيح الأفاعي في الإعلام المصري، الذي صار يتدخل فيما لا يستطيع إدراكه بعد، مجتذبين أصحاب العمم الحمراء، للمزايدة على الشعب التونسي في حراكه الاجتماعي نحو مجتمع أكثر مساواة، كعادتهم وباستخدام نصفهم السفلي من أجسادهم في الطرح الفكري العفن الذي يطلون به علينا من خلف الشاشات، ليواروا سوءاتهم التي كشفت عنها تونس.
إن الأمر لم يكن مجرد مساواة مع الرجال وحسب، وإنما كشف الغطاء الذي تلف به المرأة عقلها في ظل هذا الجهل والتخلف الذي يغلف مجتمعاتنا، لترسم تونس وحدها على محيا نسائها بسمة انتصار، التي أضاءت وجوههن وزادتها جمالا فوق جمالها، فتراهم في شوارع العاصمة، منطلقات كفراشات الربيع، منعمات على البشر التُعساء بجمالهن الفياض الذي زادته الحرية وهجًا.
ولتبقى أفاعينا داخل جحورها وتقصر فحيحها علينا نحن المصريات. وحدنا نحارب طواحين الهواء ولا نجد لأصواتنا سبيلًا، فقد ابتلع السبيل أصحاب العمم الحمراء والبيضاء، فيا أصحاب اللحي والعمم والشاشات، كفوا أذاكم عن تونس، ودعوها بجمالها، ولجمالها، ودعونا نبحث عن حرية ما آن لكم أن تتذوقوها بعد.
فسلامًا على تونس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top