منى يسري تكتب: خايفين عليك

\"\"

في أحد صباحاتي المعتادة، فنجان من القهوة السادة، أرتشفه على مضض، بعدما صار الصباح ضمن صفوف أعدائي، نصف الحياة، ونصف الأيام، واستهلال الأشياء، ومقدمة الحيوات، أقلب بين صفحات الكتب، حتى أزيل بعض التوتر، الذي فشلت تمارين اليوجا في إزالته، بل إنني قد أصبت اليوجا بالتوتر، فغيرت معالمها، كما تغيرت معالم الأشياء في عيني.
في العدد الشهري من مجلة علم النفس الصادرة عن الهيئة العامة المصرية للكتاب، أطالع بحثا تحت عنوان \”محددات السعادة\”، واستعرض الباحث، والذي ينبعث الجهد الواضح من كلماته في رحلته للبحث عن السعادة، فإذا به يستهل بحثه، بإمام الفلاسفة \”أرسطو\”، والذي وضع 6 محددات لسعادة الإنسان، وكان على رأسها \”الاستقلال\”، تلاها التميز البيئي، النمو الشخصي، علاقات إيجابية مع الآخرين، غرض للحياة، ثم ذيلها بـ \”تقبل الذات\”.
استوقفتني المحددات الستة بلا شك، بعد مطالعة الإجابة الحقيقة على سؤال البشر أجمعين، ومنين أجيب سعادة؟
إلا أن ما أطلت الوقوف عنده كان أولهم وبالطبع صار أولهم لأنه الأكثر أهمية، \”الاستقلال\”، والاستقلال كلمة لا يستخدمها العرب، إلا في حالة جلاء المحتل عن الأرض، أما فكرة أن يستقل الفرد بذاته عن العائلة، لم تجلس بعد قيد طاولة نقاش الأسرة العربية، التي لازالت تسمي الشاب أو الفتاة المطالب باستقلاله، بالمارق، وتصب عليه اللعنات، وتطرده من الجنة المنصوبة تحت أقدام الأمهات.
طالعنا الخبراء النفسيين بتعريف آخر للاستقلال، هو \”المسؤلية الكاملة للشخص عن نفسه وقراراته، وأن يصبح صاحب السيادة الأولى على حياته\”.
شعرت بالشفقة تجاه الملايين من الشباب العربي، الذي جاوز الثلاثين من حياته، ولا زال ينتظر تحديد أبسط رغباته، قيد الأسرة التي لازالت تحكم السيطرة على موارده المالية، فلا يستطيع أن يفعل أبسط الأشياء دونما إذن، وإذا فعل فإن حياته تنتابها الازدواجية، تصبح له حياة في السر كالعشيقة، وحياة أخرى في العلن كالزوجة التي لا يحبها ولا يستمتع بها ولكن المجتمع من يحتم عليه البقاء إلى جوارها.
ولا شك أن أزمة الاستقلال في الوطن العربي لا تقف حد منظومة الزواج، فالزواج في ثقافتنا ليس سوى قيدا إضافيا نضعه حتى نخفف من وطأة قيد المجتمع والأسرة ويصبح القيد الأكثر حدة هو قيد الشريك.
في إحدى ليالي العيد أتذكر صديقتي التي جاءني صوتها مخنوقا بالبكاء، في إحدى ليالي العيد فجرا، ولا تستطيع النوم من شدة الضيق الذي تشعر به، إزاء الزوج الذي جاوز الثلاثين، وتزوجا عن قصة حب، إلا أنه لا يستطيع إمضاء الإجازة بعيدا عن أسرته، فهو ملتصق بهم، إلى الحد الذي أصابها بالاختناق، هي وقد تزوجته نيلا لنوع من الاستقلال عن العائلة، إلا أنه بعد لم يستطع الانفصال النفسي عن العائلة، والتي ربما تكون رائعة، ولكن أمر الاستقلال، بعيدا عن كون العائلة جيدة أو سيئة، فالدول المستعمرة تسعى نحو الاستقلال مهما كان هذا المحتل أكثر دراية بتنظيم أمورهم، والأمر هنا ليس تشبيه المستعمر بالأسرة، ولكن على الإنسان أن يكوّن وطنا ذاته، وإلا فالسعادة ستكون مطلبا بعيد المنال.
منذ سنوات ليست بالبعيدة، تم اعتماد مؤشر اقتصادي جديد لقياس جودة الحياة التي يحياها البشر في أرجاء مختلفة من الأرض وهو \”مؤشر السعادة العالمي\”، والذي تقع زمرة الدول العربية في مؤخرة قائمته، وكيف لا، والأسرة والمجتمع والدولة، يقفون عائقا أمام أحلام الشباب الذي يمثل 70% من قوة المجتمع العربي، والذي لم يحقق أي إنجاز بعد انتفاضات 2011، سوى مزيد من القبضة الحاكمة من قبل الأسرة ثم الدولة، حيث الانخراط في العائلة، هو إعادة إنتاج لأفكار المجتمع البالية دونما البت في أمر صحتها من عدمه، طالما أجمع عليها كبار السن، وظلوا يفعلونها مدة لا بأس بها من الزمن.
مثل هذه المنظومة، بمثابة طرد مركزي لكل الأفكار التقدمية التي من الممكن أن تخلق شيئا من التمرد على أبسط الأوضاع والأفعال، وتستخدمها الأسرة باستمرار في ممارسة العنف النفسي، وأحيانا الجسدي، والقمع الفكري والرفض الذي تقتل به الأسرة محاولات التجديد، كما الحاكم الديكتاتور، الذي يفضل المواطن المثالي، عن هذا الصعلوك المتحذلق الذي يتم الزج به خلف جدران السجن.
هذه المنظومة التي تدفعك نحو الجنون، تسحب منك كل ما يمكن أن يتسبب في إسعادك، وتقدم لك الأمان الزائف فوق منظومة العقل الجمعي، تعمل على تشويه أفكارنا وأحلامنا، تسرق منا الحاضر والمستقبل، المغلف بغشاء \”إحنا خايفين عليك\”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top