منى يسري تكتب: الراقصون على قرع الطبول

\"\"
وحيث تغط المدينة في نوم عميق، نوم أشبه بالموت، لحين النفخ في الصور، هناك من يلتحفون الألم، ويكتوون بنيران لا يعلمون من أين تأتيهم، ربما الشعور بالوحدة، الذي يظل رفيقًا، حتى وسط الجموع الصاخبة، ربما هم عجزة عن استخراج تلك المشاعر، التي تظل كطبول تقرع في رأسه، لا يستطيع أحدهم سماعها، لكل طبوله التي يتمايل حسب إيقاعها، منهم من تودي الطبول بحياته، ومنهم من يظل أسير إيقاع الطبول، طبول لا تكف عن القرع في وطن أصبحت فيه الطبول، وظيفة شاغرة لكل طالب عمل، وطبول تقرع في رؤوس هؤلاء الذين لا يجدون سبيلا، ليلتحقوا بالوظيفة الوحيدة الشاغرة.
هناك آلاف ينتظرون على قارعة طريق الانتحار، هي جدلية أكبر من أن نقرر حسمها يومًا، بل في اعتقادي هي جدلية أعقد من تناولها للنقاش، كل منا عليه أن يحيا بطريقته، دعوا الناس يقطعون قرع الطبول في رؤوسهم متى شاؤوا، ودعونا نغط فيما سميناها حياة.
القلق الكبير وشبح الوحدة، التي لم أجد لها معنى بعد، كلنا وحيدون، ومغتربون، وحدهم الحمقى سعداء، لا تتطرق الأسئلة إلى رؤوسهم فتبدأ في قرع طبولهم، فتبقى الطبول هادئة، ويمضون في طريقهم بلا إيقاع، بموجات متوازية، أشبه برسم قلب لمريض لقي للتو حتفه في غرفة الرعاية.
تبقى الحياة أمرا أعقد من تخيله، واختزاله في بضع كلمات، كلمات لازالت تكبل أرواحنا عن البوح بأسرارها، ربما يكون الموت حياة تفتقر للغة لم نتمكن منها بعد فلا تستطيع البوح عن نفسها، ربما قلقنا الكبير والآم الوحدة التي لا تجد رفيقًا، ولا أدعي أن يكون الرفيق خارجيًا، بل إن الوحدة شعور ذاتي، تخلقه مجاعتنا الكبرى، التي نشترك فيها جميعًا، مجاعتنا للحب الأول، والرعاية الأولى، والاحتواء الأكبر، حين تفتحت عيوننا لأول مرة على عالم نجهله، ونريد استكشافه، لم يكن الأمر يتعلق بالمعرفة، أكثر من ارتباطه بالحب، الحب غير المشروط، وغير المؤدلج، وغير الممنهج، الحب الذي تأخذه وإن لم تطع الأوامر وأردت استكشاف عالمك دون أن تستمع لصخب الآخرين، حب يجعلنا سعداء لذواتنا وبذواتنا، إننا تعساء لأننا نتعطش للحب الأول، نظل نبحث عنه، في تجارب لم نحياها، وأنصاف حياة، قيود، أغلال تقيدنا بلا نهاية.
يوم ميلاد القلق الكبير، حين سقطت دمعة تلتهب بنيران الألم، ولم تجد من يطفئها، حين اختطفنا النوم وفي القلب ألم لا نعرف سببه، حين ارتعدنا من التمرد الأول، وحين شقت الصفعة الأولى طريقها إلى وجوهنا ولم تتوقف على القدوم، حين احتبست كلماتنا خوفًا من الرفض، وحين تحجرت أعيننا بالدمع، حتى أصابنا الجفاف، يوم ولد القلق الكبير، كان الناس في طريقهم للبحث عن الحب، فلم يأخذوه، وأصابهم عجز عن عطائه.
أذكر في طفولتي غير البعيدة، حين ماتت العمة بعد 10 سنوات من فقد البصر، وهذا الحزن الكبير، الذي أغرق تجاعيد وجه العم زوج العمة، بعد خدمة رفيقته 10 سنوات كأنها طفلته، يطعمها ويلبسها، ويحكي لها مشاهد أفلام عادل إمام حتى يستطيعان الضحك معًا كما فعلا في الأيام الخوالي، رأيت كيف عادت العمة إلى طفولتها الأولى، فأخذت كل الحب، ورافقها إلى قبرها، لتترك العم وحيدا، طريدا من وطنه الأم \”فلسطين\” ليتركه الوطن مرة ثانية إلى القبر، سكن إليها 40 عامًا، وحين رحلت رأيناها تحيا في عينيه الحزينتين، وبين أمواج ازرقاقها الذي يشبه صفاء بحر سيناء حيث عاش بالقرب من وطنه، تلك لحظات من الحب تطفيء قلقنا الكبير، تعطينا حيوات فوق حياتنا القصيرة، نحن أضعف من اجتيازنا لكل التجارب، خوض كل الحيوات التي نتمناها، لكن وحده القلق الكبير يظل رفيق هؤلاء الذين يتعطشون إلى الحب، الحب المفقود منذ البدء، وليس الحب المستجلب، في زمن أصبح كل شيء مباعا في الأسواق، حتى الإجابات التي نحاول استكشافها، يغلفونها بما أرادوا من غلاف، حتى لا نستغرق في استكشافها بدلا من هذا القلق الذي يلتهم أرواحنا، عبر الشاشات حيث يمكنك خلق عالم من الوهم، تيه مغلف بالتيه، وهذا الزيف الذي يغرقنا في قلق أكبر، يزداد يومًا تلو الآخر، ولا نجد مخرجًا من نفق مظلم سوى هذا القلب الذي يفيض بالقلق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top