منى عبد العزيز تكتب: إمام التنمية البشرية.. ابن أبي طالب.. "علي"

اعشق شخصية ابن أبى طالب.. اعشق عليا.. لطالما توقفت عند شخصيته وأقواله ومواقفه، ولطالما أخذت وغيرى من أقواله عبرا كثيرة.

توقفت كثيرا عند أقواله وصياغته لها وإخراجه لها بتلك الصورة البسيطة العميقة، وكأنه كان يهدف لصياغة مختلفة لعقل الإنسان فى عصره، أو كأنه كان من أقدم من عرفوا التنمية البشرية فى عهد أطهرالخلق سيدى رسول الله صلوات الله وتسليمه عليه.
نشأ علي نشأة مختلفة، صاغت فى شخصيته الكثير، وأثرت فى تلك الصياغة بشكل كبير، فانتسابه لقبيلة عريقة ولبيت عريق من بيوت قريش جعله بالفطرة قادما للدنيا يحمل ميراثا كبيرا من الحكمة والشجاعة والثراء الفكرى.. جعل فى شخصيته رصيدا أصيلا بالفطرة من التضحية والتفانى والبذل والعطاء.
والحديث عن علي لا يكفيه مجلدات كما قال ابن عباس رضى الله عنه: لو أنّ الشجرَ أقلامٌ، والبحرَ مدادٌ، والإنس والجن كتّاب وحسّاب، ما أحصوا فضائل أمير المؤمنين علي عليه السلام.
لكنى لطالما انبهرت انبهارا شديدا بحكمته ومقولاته، لطالما تأملت الجانب الفلسفى العميق فى شخصيته، وهو ما نتج عن فى رأيي عن معطيات كثيرة حدثت فى حياته، خاصة بداياتها، فكونه شخصا قويا نفسيا.. شجاع بالفطرة، إذ قدم نفسه فداءا لسيد الخلق ليلة الهجرة وهو ما زال صبيا، مما رسم علامة لا تختفى فى طريقه، فلا يفعلها سوى قوى الإيمان شجاع الصفات، وهو ما جعل علي مثالا يحتذى به فى الشجاعة، فقد كان لا يهاب أحدا ولا يهاب الموت ولا منازلة الأقوياء فى المعارك.

وأرانى هنا اتساءل: هل نملك اليوم فى حياتنا من شجاعة علي شيئا؟ هل نواجه مخاوفنا؟ أو من يهدد صفاءنا ويعكر ويكدر حياتنا؟ أم نتركهم يعيثون فيها فسادا ونلزم العجز والجبن، ونسميه \”تجنبا للمشكلات\”؟
لطالما كانت شجاعة علي شجاعة فطنة وإقدام، وليست تهورا ولا رعونة بلا حسابات، فقد كانت شجاعته بها من الفطنة وحسن التدبير والتخطيط الكثير، وهو ماهر حينما كان المسلمون في غزوة حنين في العام الثامن من الهجرة، عندما ثبت مع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه مع من ثبتوا من المهاجرين والأنصار، وكان في جيش هوازن رجل على جمل أحمر بيده راية سوداء، إذا أدرك طعن برمحه، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه، فأردك عليّ بعبقريته الحربية وتجربته الطويلة أن هذا الرجل عامل مؤثر في حماس هوزان وشدتها، فاتجه علي بن أبي طالب رجل من الأنصار نحوه، واستطاع إسقاطه من على جمله، فما كانت إلا ساعة حتى انهزموا وولوا الأدبار وانتصر المسلمون، وهو ما أراه بلغتنا الحالية علما وتنمية بشرية لا اختلاف عليها، فدراسة نفسية من يجابهك والعمل على مواجهتها وتحري نقاط الضعف والقوة هو شيء هام، يجعلنا ننظر للأمور بعمق، ونقوم بحسابها بمنتهى الدقة.. لا نترك شيئا للاحتمالات، ولا نقرر شيئا ولا خطوة بحياتنا اعتباطا.
اغدق علينا علي من حكمته الكثير، فمقولاته تصول وتجول الدنيا حية بيننا حتى الآن.. لا تموت أبدا، وطريقته التى كان يعيش بها مازالت خيطا من نور يرسم الطريق للكثيرين، فزهذه فى الدنيا له أثر كبير على نظرته لها وعدم تكالبه عليها، وهو ما أراه جديرا بالتامل، فرغم مكانته التى كانت تمكنه وتؤهله لأن ينهل من متاع تلك الدنيا الكثير والكثير، إلا أنه كان يزهدها، حتى بلغ به الزهد أن يبكى أطفاله ذات يوم من الجوع، وهو من هو علي ابن عم رسول سيد الخلق، وأن يصعد على المنبر يوما ليبحث عمن يشترى سيفه حتى يشترى بثمنه إزارا بدلا من إزاره الذى بلى، فيعرض عليه رجل أن يقرضه ثمن الإزار ويبقى سيفه معه. وهو من قال يوما: يا أيها الناس.. الزهادة قصر الأمل، والشكر عند النعم، والتورع عند المحارم، فإن عزب عنكم فلا يغلب الحرام صبركم، ولا تنسوا عند النعم شكركم، فقد أعذر الله إليكم بحجج مسفرة ظاهرة وكتب بارزة العذر واضحة يا الله هل علم على بقيمة الدنيا الحقيقية فزهدها ولفظها وفكر فى آخرته؟

هل زهدها فأتته راكعة عن بكرة أبيها؟ هل زهدها فأتته الحكمة لصفاء نفسه وبصيرة رؤيته لها.
لا شك أن تكالبنا على الحياة الدنيا أفقدنا الكثير والكثير من صفاء أنفسنا، وأورثنا الكثير من العمى بحياتنا، فما عدنا نبصر حقيقتنا ولا عدنا نعلم حقيقة ما نريده من تلك الساقية التى ندور بها ليل نهار.. نفيق ونصحو ونعود نغفو فى غفلة لا نهائية.. لا نستيقظ منها إلا نادرا، ولا نعلم ما نريد منها إلا من رحم رب العالمين.

جانب آخر من شخصية علي لفتني وجعلني أتأمله، ألا وهو تواضعه وبعده عن الكبر، فلم يكن للتكبر من خلق علي نصيبا، فقد كان أكثر خلق الله تواضعا، رغم قوته، وخفضا للجناح، رغم شجاعته.. فقد سأله ولده محمد ابن علي بن أبي طالب وقال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله؟ قال: أبو بكر قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر. وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.

يا الله.. أنت من أنت يا علي ولا تتكبر! أنت من أنت ولا تشعر أنك فوق البشر.. تعلوهم خلقا وعقلا ونسبا! فما بالنا نتعثر اليوم فى أشباه بشر يشعرون أنهم يفوقون الجنس البشرى بمراحل.. فاقوا هتلر في كبره بكثير.. يرون أنهم يعلون الدنيا نفسها بعقلهم وبمالهم وحسبهم ونسبهم، ويسيرون بيننا متباهين برؤوس تطال عنان السماء من الكبر والغرور.. أين أنت يا علي؟ أين نحن منك؟
من أكثر المقولات التى جعلتنى أشعر أنى أمام عالم بالتنمية البشرية والعلوم الإنسانية هى مقولة يتداولها ويكررها الكثيرون من مدربى التنمية البشرية، ألا وهى مقولة \”وتحسب أنك جرمٌ صغير، وفيك انطوى العالم الأكبر، داؤك منك وما تبصر.. دواؤك فيك وما تشعر\”.

ومن أين آتى بدليل على صحة ما أرى من أنك يا بن أبى طالب أقدم من عرفوا التنمية البشرية، بقدر هذا الدليل؟ فعندما اقرأ تلك الكلمات اتذكر كلمات وشروحات أخرى ساقها الكاتب أنيس منصور فى أحد كتبه الشيقة، التى قرأتها فى سن صغير (لعنة الفراعنة)، وفى جزء من الكتاب عرض منصور لرياضة اليوجا والتأمل، وما أسماه الآسيويون وقتها (الزن)، وحاول منصور أن يجعلنا ندرك ماهية التأمل وماهية الاكتشافات النفسية العظمى التى قد نصل لها لو تأملنا وعرفنا قيمة عقلنا وقدراته، وما يستطيع أن يجذبه لنا إدراكنا وتفكيرنا من خير أو شر، وهو ما يجعل عليا رضى الله عنه أول من لفت النظر لهذا فى عالمنا وحضارتنا العربية، وهو ما يجعله بالتأكيد يبدو مطلعا على الحضارات الأخرى، حيث تأتى كلماته لتعبر وبدقة عما يقصده علماء التنمية البشرية، وهو أنك يا بن آدم أعظم وأكمل وأعقد ما خلق، وأنك لو أعطيت عقلك حق الاهتمام والاحترام والعمل، لوصلت لنتائج تبهرك وتبهر العالم حولك، ففيك انطوى العالم الأكبر كما قال علي رضى الله عنه.
أرى أن عليا قد حرص كثيرا على إخراج رؤيته الحكيمة للعالم، وكان هدفه الأسمى بناء الإنسان وجعله أفضل وأرقى وأحكم، فأعجز كثيرا عن ذكر ما تعلمته شخصيا من كلماته، فهو من قال: \”اضرب بعض الرأى ببعض، يتولد منه الصواب.\”، وهو ما يضرب نظرية الديكتاتورية وحكم الفرد الواحد فى مقتل، ويجعل العصف الذهنى ومشاركة الأفكار ومناقشتها، هو الأفضل للوصول للصواب، بدلا من التعنت والثبات على الخطأ، فبدون مناقشة الآراء والأفكار تظل عقولنا جامدة راكدة، لا يصل لها هواء المعرفة ولا نسمات الصواب.
وعلي من قال إن \”الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن\”، ناهيا عن الركود والركون لوضع ما، مهما كانت الأسباب، فالرزق فى أرض الله واسع، وإن افتقرت فى وطنك وطرقت كل الأبواب، فاسع فى أرض الله الواسعة، وإن كان خارج وطنك.
وهو من قال \”من عَظَّم صغار المصائب، ابتلاه الله بكبارها\”، لافتا ومحذرا ممن يهولون الأمور وينتهجون الكآبة طريقا، ويعظمون صغائر البلاءات فيجذبون بلغة قانون الجذب ويومنا هذا العظيم من الابتلاءات، فقد فتحوا مستقبلات الكوارث فى طاقاتهم، وهو ما ألفت النظر فيه بمقولته لناس من خوف الذل في ذل، فلا تستشعر مشاعر الذل والخوف، فتأتيك هرولة، فقد جذبتها بطاقتك السلبية فى كون سخره الله لك.. يأتيك منه ما تريد.. فقط ادرك واجذب لك ما تستحق.. كم أنت متامل وكاشف عن الحقيقة فى هذا الكون يا علي.
وهو من قال \”ثلاث تُورث ثلاثا: النشاط يورث الغنى، والكسل يورث الفقر، والشراهة تورث المرض\”، لافتا لمرض العصر، ألا وهو الشراهة وعدم الاكتفاء وعدم تحكيم العقل فى شهواتنا واحتياجاتنا، فالعالم اليوم يعطينا إمكانية الوصول فى كل شيء للحد الأقصى، بل إمكانية أن نجرى بعض التغييرات فينا وفى أجسادنا، لنصل إلى ما بعد الحد الأقصى لقدراتنا، راوين بذلك عطش شراهتنا للحياة، وهو ما أوصلنا لما نحن فيه كبشر، وهو ما جعلنا فوق منحدر أخلاقى شديد الخطورة، فلا اكتفاء ولا ارتواء ولا تعقل ولا تحكيم لأى عقل فيما نريد.. عالم بلغ من الجنون ما لم يتوقع بشر.. عالم اختفت منه مكابح العقل والضمير والرحمة، فمن قدر اليوم على عدوه فلا يرحمه ولا يحكم العقل فى تعامله معه، وإنما يسحقه بلا هوادة، وهو ما يجعل دائرة الثأر فى حياتنا لا تنتهى.

نرى عليا يقول فى هذا \”إذا قدرت على عدوك، فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه\”، وهو ما أراه تأملا عاليا للموقف ورجوعا دائما وشكرا وحمدا للخالق على قدرته فينا، وعلى منحه لنا لقدرتنا.

ما أحوجنا اليوم لمن يذكرنا بعظم قدر عقولنا، وبعظم قدر ما تستطيع البشرية فعله والوصول إليه.. ما أحوجنا لمن يذكرنا أننا خلق الله العظيم.. أننا مخلوقات راقية عظيمة لخالق أعظم.. ننفذ إرادته الكبرى فى حياتنا، ونعمر أرضا سخرها لنا، وكونا سيره من حولنا.

أنت يا ابن آدم عظيم بحق.. فهل تدرك؟ قوي بحق.. فهل تحفظ عليك قوتك وتحسن استغلالها؟ راق بحق.. فهل تعيش فى برزخ هذا الرقي؟ هل تدرك حكمة الله فى خلقك؟ هل تتفكر بها دوما أو أحيانا؟ هل تنفذ تلك الحكمة بحياتك؟ وهل تسعى لإدراكها من الأصل؟
لن تنتهى التساؤلات، ولن ينتهى بى التأمل فى بشر بلغوا من العمق والنقاء مكانة عظيمة، أرى منها أن علماء التنمية البشرية يجب عليهم كما يبجلون ستيفن كوفى العظيم وديل كارنيجى الملهم ونابليون هيل وريتشارد كارلسون وروبرت جرين، أن يفردوا مبحثا ليس بقليل لما قاله علي ابن أبى طالب فى مجالهم، فهو -فى نظرى- عالم جليل فى مجال التنمية البشرية، لم يلتفت بالشكل المطلوب لإسهاماته بعد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top