منى حراجي تكتب: نبقى في الجرة ولا نطلع بره؟

\"\"

(1)
أكثر المكروبين فى هذا العالم من يُرفع عنه الحجاب بعد حين فيرى ذلك العالم الذى لم يكن يعلم من قبل بوجوده، يظل طوال عمره الفائت يرى الحياة من خلال منظور أبويه اللذين أصرا منذ مولده على أن يحصران حياته فى إطار مجتمع ذي طابع محدد لكى يظل فى أعينهم ابن الناس المتربى، وفي سبيل ذلك يبذلان كل النفس والنفيس من أجل أن يكون ذا شأن فيجب عليه التفوق ليعتلى مجموع درجاته المراكز التعليمية المتاحة.
ويصبح أكثرهم بؤسا ذلك الذى يتقبل ويطيع وينجرف فى هذا الاتجاه فيغلق بابه على قشور مجتمع يكسوه الاحترام والالتزام.. مجتمع قد تم تحديد ملامحه من قبل أن يكون، ويسير ليستكمل حياته وقد شغل باله وجهده ووقته كاملا وهو مقبل على طريق يحمل لافتة \”عيب وحرام والعلم نور ينير كل الطرق المظلمة\” جاهلا أن العيب وجهة نظر وأن هناك من الحرام ما يتغير ويتبدل ويختلف باختلاف التفاسير والمذاهب والقائلين وأن العلم سيؤتيك إن أردته أنت وأن النور لو كان باهتا وضعيفا لتشوهت الرؤية.
(2)
الذين يعانون فى حياتهم الزوجيه، ذلك الطرف الذى أمضى طفولته ومراهقته بين أبوين متحابين اقتسموا قسوة الأيام وتشاركا أفراحهما فرأى وسمع وكبر على أن الأب هو رب أسرة حاميها بحبه وحنانه ورحمته وأن الأم ضلعه وسنده وأن الزواج مشاركة ومنظومة رائعة تنتج عنه ذرية سوية، صلة الرحم وزيارات العائلة أنت وأخوك وابن عمك على الغريب –قصة بدأت أمام عينه بتوتة توتة واستمرت فيها حلاوة الحدوتة– ثم أفاق على منازعات من أجل شقة ومهر وقائمة يتنازع فيها أطراف على ملكية الستائر والسجاد، صراعات عائلية وحصار مادى واجتماعى تحت عنوان بناء أسرة.
رجال يعندون ويقبلون على أنفسهم أن تقف زوجاتهم وأمهات ابنائهم أمام المحاكم لتعلن فى وسط يجمع أغرابا من الناس أنها لا تطيقه حتى ينجو بمؤخر صداقها ويحرمها من حقوقها الشرعية، ورجال لا يطيقون تحمل مسئولية أسرهم فيتركوهم لزمان يعلّم على أجسادهم وعقولهم علامات الهروب والخزي، ورجال نازعوا وتخاصموا من أجل إرث سيذهب كما ذهب صاحبه.
ونساء يرفضن أن يقفن بجوار أزواجهم فى ضيق الحال لأن الشرع نفسه أعطاها حق أن تحتفظ بمالها لنفسها ومنحها ذمة مالية منفصلة، وأخريات أقسمن أن ينفصلن بأزواجهم فخلقن العداوة بين أهل الزوج ثم ذهبت بعد ذلك تدينه بأفضال أهلها وذويها من باب.
(3)
الذين يتأملون ويعيدون التفكير فى أمور الدين وعقيدتهم.. أولئك الذين تربوا على أن الحلال بين والحرام بين وأن الصلاة عماد الدين وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، فانتظموا فى صلاتهم وأقاموا ليلهم واجتهدوا فى عبادتهم.
ثم أفاقوا على أن طاعة أولي الأمر منهم واجب، وأولياء الأمر لديهم من يحرم الحلال ويحلل الحرام على حسب رؤيتهم باختلاف مناصبهم وأهدافهم، ووجد نفسه لا يقوى على تغيير المنكر إلا بأضعف الإيمان، واكتفى بأن يقوم بدور الشيطان الأخرس خوفا على نفسه وعلى من يعيل.
تفهموا أن رجال الدين فى كل زمان أشخاص عاديين يأتون بما يأتى به البشر ونحن من قدمنا لهم القدسية بأيدينا وفضلناهم على العالمين ونزهناهم عن أى خطأ ومعصية.
أعادوا التفكير حينما تجلت لهم أفكار غير مألوفة وانحرفوا عن سير القطيع فتمردوا وكان لديهم من الشجاعة أن سقطت عنهم فكرة المسلمات والموروثات بلا دليل، فانفتحت تلك الطاقة التى لم ولن تنغلق من ذلك الحين.

(4)
من أُغلقت الأبواب عليه صغيرا، رأى وجها كريما لحياة تتحدث عن العدل والإنصاف والأخلاق الكريمة، اطمئن فيها إلى الأشخاص والأحداث سريعا وكان لديه من الوقت والسلام النفسى أن يكّون مخزونا من الذكريات السعيدة والأحلام العريضة، لا يشوبها خوف من الزمان ولا قلق من الأشخاص، وتكونت لديه عقيدة لا تصلح لهذا الزمان المشوب، ما لبثت أن تبدلت بعد الخوض بها، فتوقف فى نصف الطريق يلوم نفسه فلم يعد يرى نصاعة فى الأبيض ولا يحتمل قتامة الأسود، ومن تعرض صغيرا لوجع الحياة والكثير من التجارب يعي للحياة ويرى ذلك الوجه المظلم منها، يدركه ويتقن فن التعامل معه، تتغير ملامح شخصيته وتنضج أفكاره قبل أن تنضج سنوات عمره ولكن يفقد تلك البراءة فى التعامل، يسبق الشك لديه أى اطمئنان، ويسكن الخوف والترقب أماكن الراحة والسكينة، الحذر يحيط كل تصرفاته وسلوكه، وكلما شعر بالفرحة أشفق على نفسه من لحظة فراقها، لا يؤمن بوجود الأبيض ويحيا مترقبا ذلك الأسود اللعين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top