اليوم كبرت يا أمى، عندما وقعت نظراتى عليك ورأيتك تستندين بمعصمك على تلك النافذة تطلين فيها على دنيا لم تعد تغريكى ولم تصبحى تنتسبين إليها، أدركت فى تلك النظرة وحدتك ونحن بجوارك، رأيت تلك النظرة الشاردة المستسلمة في عينيكى، ضالة أنتِ فى طريق فات أوان تحديد مسلك فيه ولا ترين الهدى لبلوغ منتهاه، وأنا أقف أرقبك ولم أعد أستطيع أن أمد يد العون إليكِ.
تذكرت حينها معاناتك مع والدى، تذكرت تلك الصرخات والصدمات التى فتكت بالمودك والرحمة المزعومة. عند نفس النافذة وقفت متخاذلة مكتوفة الأيدى، كل ما أرجوه أن يمر الوقت وتنتهى تلك الأصوات وأنجو بنفسى لنفسى، تمزقت كثيرًا بين أمى وإن كنتِ مظلومة، وأبى وإن كان ظالما لك، رأيت تلك الليالى التى اشتد فيها الجدال وجلستِ على تلك الأريكة تضمين جسدك بين ذراعيك والدموع تجهد ملابسك ابتلالا، ليالى عابسة جافة خلت من أى يد حانية.
ومر على خاطرى كم من زائر قريب أو بعيد أتى ليحكم لجامك ويهدى من ثورتك ويذكرك أن لكِ فلذات أكباد عليكِ أن تتقي الله فيهم، دعوكى لأن تتخلى عن أنانيك وتضعي نصب أعينك استقرار تلك الجدران، ولو أطالوا النظر تارة لوجدوا أن الشروخ قد أصابتها، بل وتمكنت منها. أصروا أن ترممى جدرانا بالية -إن صمدت- لن تصمت طويلا.
جاءت النساء لتضعك فى نفس الماعون -الذى وضعوا فيه هن من قبلك- ولتذكرك بأن الرجال سواء والزواج سواء والحياة سواء، فتكتب لك النهاية متناسية مجرى الأحداث، وجاء الحكماء ليعلنوا رفضهم الابتعاد عن السياق، وهددوا بالتخلى عنك وعن حملك إت فشل الوفاق.
وضعوا على عينك الغمامة وأمروك أن تدورى فى الساقية وأن تلفى حجر الرحايا فتسقى وتطحنى بدون أن يعطوكى أجرا أو ثوابا ليس فقط، إنما تنصاعين بدون شكوى أو تخوف لما هو آت، لقنوكي أن التضحية قرار يفرض من دون اختيار.
وقد جاء فى ذات يوما إلى بيتنا ذلك الشيخ الذى يصول ويجول فى مسجد جوار ويلبس العمامة البيضاء والجلباب الفياض، سمع شكواكى واستمال. صمت برهة وقال لك معاتبا: أتريدين الحلال البغيض! وأمرك بالاعتدال، ولا أفهم إلى الآن يا أمى، ما هو البغيض فيما حلله الله، وهل علينا ان نترك الحلال وإن كان بغيضا لحياة بغضية تدفعنا إلى المحرمات ذاتها؟!
قرأ فى بيتنا بعض الآيات على الماء وتجول فى الأركان وسكب هنا وهناك، يزعم أن بذلك سوف ترحل عن سماء حياتنا تلك الأرواح الشريرة وتفسد أعمال ذوات العيون الحاسدة.
رأيته وهو يضع يديه على راسك ويتلو من الذكر الحكيم للرقية الشرعية آيات ورأيت جسدك وهو يرفض الفكرة ويتمرد فى صمت يتوسل إليهم أن يسألوا عن الأسباب.
أمسك الشيخ بيد والدى وأخفض صوته وهمهم فى أذنه وأشار أنك ناقصة عقل ودين، ودعاه أن يلين معكِ.
أنهى وظيفته وسار بجلاله ظنا أنه قد حدث المراد.
الآن بعد فوات الأوان، سأعترف لك يا أمى إني لم يشغل بالى يوما أن أنفُض عنك تلك الأحزان، ومضيت فى طريقى اقتنص من بستانك وبستان أبى زهرات متعددة الفيحات، بل والأكثر من ذلك إني أدركت مع حداثة سنى تلك الأسباب التى فضت بكارة تلك الزيجة وأفضت بها إلى سيدة لم تتزوج بعد وابتعدت عنها، وشددت على نفسى ألا أقع فى نفس الأخطاء، أقسمت ألا أترك نفسى لذلك المقعد والنافذة.
فى كل مرة كانت تأتيك تلك الثورة العارمة ورغبت فى أن تحلى وثاقك، زدت عليك الرباط بأشكال اجتماعية وقورة، أشكال إن ذهبت أضرت بى وبهيئتي، ومنحتك حريتك وأمل فى بداية حياة جديده، فى كل مرة تكادِ تصلين إلى مرادك، أرجعتك إلى بداية الطريق بخفي حنين، حتى تبقى تلك الهيئة الجمالية على حالها متزنة فى أعين الناظرين والمارين بنا.
لن ادعي المثاليك الآن، فلا جدوى من ذلك، انحنى أمامك واعترف أنني لم ار إلا نفسى، أضعت حياتك من أجل حياتى وبنيت استقراري على حطام عمرك، وعذرا لم يعد لدى من الوقت الآن لأعوضك عنه، ولم يعد فى الإمكان إلا تأمل حالك والاستفادة من نزعاتك والدعاء لك بالصبر.
كبرت يا أمى وعرفت كم كنت أنا خاطئة وكم كنت أنت حانية، ضاع عمرك من أجلى وكان عمرى من أجلى.