أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟
آه.. لو أنا صفية:
لكنت أسدلت ستائر البيت كلها فجأة حتى يحل الظلام الداكن عبر سؤالي.. لكنت وجدت ذلك الخيط الرفيع من الضوء المتسلل خلف إحدى ستائري، ووقفت فيه بصورة درامية كتلك التي تسبق مونولوج المسارح التراجيدية.. كنت نظرت لأعلى وفردت ذراعي وتركت اللمعة تنعكس في عيني، تماما مثلما كان يحدثنا يوسف بك وهبي في مشاهده الفلسفية، ولكن بنبرة صوت مرتعشة وعالية كتلك التي عودتنا عليها أمينة رزق حين تنطق.
طبعا اعرف ما هو الوطن.. هو ذلك التراب الذي يتغنى به ملوك الطرب، ويموت من أجله الجنود، ويتمرمغ في عشقه ساكنيه.
طبعا اعرف ما هو الوطن، هو تلك الخواطر التي تغيب في حضوره، وتحضر في غيابه.. كالهجرة والخوف والغضب واليأس و… القسوة.
الوطن هو الروح التي تسكن جسد الدولة، فتجعل من مبانيها سكنا، ومن ماضيها تاريخا، ومن شبابها غدا، ومن أرضها تربة، ومن جدرانها حدودا ترسم ملامحها دون العالم.
مسكين ذلك الإنسان، كم يظل في حالة حرب دائمة مع تلك الحدود، إما من أجل أن يبقيها، أو من أجل أن يغادرها، وبين هذا وذاك، تختلط الدولة بالوطن.
الفرق بين الدولة والوطن، تماما كالفرق بين الدولجي، والمواطن.. المصلحة العامة، والخاصة.. الأمن والأمان.. الحلم والكابوس.
يمكن للدولة أن تتجرد من الوطن، لكن العكس أبدا لم يصح، ولن يصح، فإذا حافظت على الوطن، بقيت الدولة.
الوطن هو تلك القضية التي لا يختلف عليها ساكن، أما الدولة، فهي تلك التفاصيل الفارغة التي يتفرق عندها الآلاف.. الوطن هو العدل والصحة والتعليم والسكن، أما الدولة فهي تلك الوزارات التي تحمل لافتة الوطن.
الوطن كالضمير، إن غاب، فجر صاحبه.
الدولة نغادرها بسهولة، الوطن لا يغادرنا، حتى وإن تظاهرنا بذلك.
للوطن كرامة لا تهدر، نداء لا يرد، ووعد لا يخالف.
الوطن لا تهدم أهراماته، ولا يجف نيله، ولا ينقسم ابناؤه.
كيف لا اعرف الوطن؟ وأنا افتقده كل يوم.
(يرفع الستار)