حينما شاهد أشرف المدني بطل رواية (الوشم الأبيض) لأسامة علام فيلم (كلب أندلسي) لسلفادور دالي ولويس بونويل، لم يكن مشهد قطع عين البطلة مفهومًا بالنسبة له، لكننا حينما نفكر في هذا الفعل بوصفه تخريبًا لبنية النظر، أي تدمير السلطة المفاهيمية للوعي البصري تحررًا من تاريخه فإننا سنكون أمام شخص يشاهد في الفيلم ممارسة مقاربة إلى حد ما لما يقوم به في الرواية دون أن يدرك ذلك. ما هي بنية النظر التي حاول أشرف المدني أن يقطعها؟
إنها السلطة الرمزية للذكورة في كافة أشكالها العنصرية، والتي تحتل ما يمكن تسميته بأبوة التاريخ المجسّدة في شخصية (جون). لا يمثل أشرف هنا الرجل المتمرد على قطيعة الذكوري بقدر ما يمثل الذات التي تسعى للتحرر من طغيان التمييز، واسترداد الدمج الإنساني بين الذكوري والأنثوي كجوهر أصيل للوجود عن طريق إنقاذ الأنثى من عذابها الأزلي، والتي تمثلها الفتاة (مود).
الذات التي تتأمل وحدتها، وتفكر في هزائمها كمعاناة بشرية، وليست انتهاكًا لقداسة الكائن الأرقى، أي الرجل الذي يحمل الخصال الازدرائية، بقوة تفوقه الجندري.
إن أشرف المدني ليس إنسانًا مثاليًا بقدر ما يبحث عن المثالية الغائبة، والتي تعني في تصوره إزاحة العوائق الأنانية من طريقٍ يمكن للسلام الأخوي أن يقطعه نحو الكمال. التعويض المناسب عن انفصال آدم وحواء. ربما نشعر أيضًا أثناء هذه الرحلة لتحرره الذاتي أنه يمتلك إيمانًا ـحتى لو لم يكن مدركًا بالنسبة لهـ بأن هذا التحرر لا يتعلق به وحده، وإنما يتعلق كذلك بالموتى الذين حطمتهم هذه السلطة، ولن نكون مخطئين لو تعاملنا مع رسالة صديقه (نواز) ورسالة أبيه كدليلين دامغين على هذا. كأنه يعيد للموتى الأنثى التي فقدها كل منهم مثلما سيفعل هو نفسه في نهاية الرواية، وأقصد هنا ما ستصير إليه علاقته بزميلته الطبيبة (هناء محمود).
لكن الرواية تطرح أيضًا استفهامين أراهما ضرورين للغاية: هل تمثل هذه السلطة الرمزية أساسًا يمكن خلخلته فعليًا، أم أنه طبيعة تخضع لأبوة تتجاوز التاريخ نفسه، وأقصد هنا الأبوة الإلهية؟
هذا التساؤل هو ما سينجم عنه الاستفهام الثاني: إلى أي مدى يمكن لـ (ذات) أن تتحرك خارج ذكورتها، أو بالأحرى خارج ما يفترض أنه حدود هيمنتها المحكومة بإرث لم تتدخل في إنتاجه، كما أنها ليست إلا ممرًا مؤقتًا له؟ لنفكر جيدًا في التناقض بين (التراب الأكثر قيمة من كل المعادن التي أحب الخالق أن نكون منه)، و(كينونتي البشرية الوضيعة) في إحدى فقرات الرواية. إنه الفصل التقليدي بين (الطهارة) التي أنتجت أجسادنا، و(الدنس) الذي صرنا إليه. كأن هذا لا يمكن أن يؤدي إلى ذاك. هكذا يمكن التفكير في إجابة للاستفهامين حول الأبوة الإلهية، وحدود التحرك خارج الذكورة.
لو وضعنا عدم فهم البطل لمشهد قطع العين في فيلم (كلب أندلسي) بجانب تحليله (المسالم) للوحة (إصرار الذاكرة) لسلفادور دالي فإننا سنكتشف معنى آخر للبحث عن المثالية الغائبة عند بطل الرواية، والتي تتجاوز السلام الأخوي بين البشر. إنه الحد الذي سيتوقف عنده أشرف المدني، حيث العودة الحتمية إلى (الرجل)، كأنه كان طوال الوقت يعمل على إنقاذ السلطة الذكورية بأن يجعلها ضامنًا للاندماج المنتظر مع الأنثى. إن أسامة علام لم يقترب من المطلق الذي قطع لويس بونويل عينه في (كلب أندلسي)، وسخرت منه ساعات سلفادور دالي الذائبة في (إصرار الذاكرة) بل كان يسعى لتصحيح نتائجه فحسب. أن يعالج الخلل الذي انحرف بالطبيعة ضد إرادة هذا المطلق. كأن الوشم الأبيض قرار غير مرتبط بالغيب، أي لعنة طارئة يمكن محوها في يوم ما.
للتواصل مع الكاتب:
http://mamdouhrizk0.blogspot.com.eg/