ارتطام عنيف بالجدار الفاصل بين منزلنا ومنزل جارنا قُبيل الفجر، كان كافيا لإيقاظ كلانا من نومه، لكن يبدو أنني تأخرت قليلا، حتى صارت والدتي خلالها ملتصقة بعين الباب السحرية، تتابع من خلالها ما يقع في شقة جارنا، وتسترق السمع لأصوات الأحذية الصاعدة والهابطة على سلم العمارة، تساءلت عما يحدث، فاجأني ردها.. إشارة بإحدى يديها طالبة الهدوء! بعد تنبيهات عدة أقنعتها أن تترك لي مساحة لأتابع معها ما يجري.
تأكد ظني.. جاءوا للقبض على جاري الإخواني.. حاولت أن أدير مقبض الباب، فاعتصرت قبضتها يدي، هذه المرأة الخمسينية.. لاتزال تحمل من صلابة الصعيد شيئا عززه خوف الأمومة، افلت منها بأعجوبة.. تقابلت نظرات ثلاثتنا، أنا والضابط والمقبوض عليه، كان لحظتها قد تشجع أحد الجيران ونزل من دور يعلونا مباشرة مستفهما، منذ الخامس والعشرين من يناير 2011 يخشى ضباط الشرطة بدايات التجمهر، حتى لو كان تجمهرا عاجزا عن إحداث تغيير، فأجاب الضابط لينهي هذه الحالة التي بدأت تتسع تدريجيا في الشارع والعمارة.. الكل يلزم منزله ويغلقه عليه.
لم يكد ينهي الضابط الجملة، حتى انتزعتني يد قوية جاذبة إياي إلى الداخل، فأفقت على اصطكاك الباب بعنف.. مرت دقائق، ثم دخلت إلى الشرفة ومن خلفي والدتي، نحيب الزوجة والأطفال وسباب الجنود، لا صوت يعلو عليه. نظرت إلى الأجساد التي تراصت في الشرفات وسيارة الشرطة تبتعد تدريجيا عن المكان.. أبصار ذاهلة وهمهمات يجبرها الخوف أن تظل هكذا؛ همهمات.
ليلتها لم نتبادل الأحاديث المعتادة عن الحرص والمشي بجوار الحائط، فقط جلست أمي على مقعد بغرفتي، هذه الصدمات البسيطة تحول دقات قلبها المريض لأصوات صادرة من طبل أفريقي لعازف هاو، صوبت نحوي نظرات تحمل مزيجا من القلق والاستجداء والترقب.. اقتربت منها واحتضنتها لأدفع عن عقلها هذه الظنون، وكأنها تنتظر أن أفعل ذلك لتخرج ما يجيش بصدرها على هيئة دموع صامتة.. لم تتوقف رغم توسلاتي طوال نصف ساعة كاملة.
\”قد رأيتم بأنفسكم كيف أجرموا، وإني حزين من أجلهم، لكن لو كان ولدي عدى لدفعته لكم، فالحزب والدولة فوق كل شيء.. قد صدر الحكم عليهم، وعليكم تنفيذه، فلتتكون منكم فرقة لإعدامهم، ولا تنسوا أنهم كانوا رفاقنا، وهم أعزاء علينا، ومن حق كل واحد منهم ألا يقتله إلا من هو في درجته أو يساويه في الحزب\”.
ألقى صدام حسين هذه الكلمات في أغسطس من العام 1979، ختاما لخطبة طالت.. ذكر خلالها اثنين وعشرين كادرا من كوادر حزب البعث، قال إنهم تورطوا بمؤامرة على الحزب لصالح النظام السوري، وداخل قاعة كبيرة حشر بها أعضاء الحزب ومسؤولين كبار بالدولة، كانت الهستيريا في أبهى صورها.. الجميع يهلل عقب ذكر كل اسم من اسماء المتهمين.. بعضهم يقف يدعو للقائد الزعيم الرئيس صدام، وآخرون يرددون شعار الحزب بحماس وانفعال يبدو مفتعل \”أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة\”، منهم من بكى، وكثيرون تباكوا، وجميعهم وزعوا أبصارهم على المتواجدين بالقاعة لعل أحدهم قد اكتشف كذب هتافاته، وعلى باب القاعة تم تنفيذ الإعدام كما أمر به صدام.
خطاب مؤسس لسياسة الرعب، كالذي قاله الحجاج بن يوسف في خطبته الشهيرة لأهل العراق بأحد مساجدها منذ أربعة عشر قرنا، تساقط بعده من الشعب العراقي أي شعور بالأمان، كما تساقطت من ثيابهم الحجارة بالمسجد أمام سيف الثقفي.. الأب يرشد عن ابنه، والأخ عن أخيه.. الجميع يبلغ عن أقرب الناس إليه، والذعر رفيق كظل لا يفارق صاحبه.
اقتربت مصر بعد إنقلاب 30 يونيو من هذه الحالة، في عهد نظام بلغ منه الخبل مبلغا جعله يُقدم على تأسيس شرطة مجتمعية، وقائمة انتخابية موحدة، ويعطي إشارات واضحة للإعلام بألا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ورصاص يُطلق في الشوارع بدون رقيب، وأحكام إعدام بالجملة، وما عاد بالسجون وأماكن الاحتجاز موضع قدم لمواطن آخر، تستطيع أن تحيط بهذه المعلومات علما، بمجرد أن تنطلق باحثا عن إحصائيات المعتقلين والشهداء، على محرك البحث جوجل، لكن ما لن تصل إليه أبدا، هو عدد المرات التي تقول ليّ فيها والدتي: ابتعد عن السياسة، والأمر الذي أصبح يصدر بين اللحظة والأخرى طوال عامين، \”أوقف ما تنشره على صفحتك الشخصية على الفيس بوك\”، ولو اجتمع الباحثون على كوكب الأرض جميعا، كيف لهم أن يعرفوا الطريقة التي تصل بها والدتي لما أكتبه من مقالات، وما أنشره على صفحتي الشخصية؟!
أمي نموذج للقطاع الأكبر من السيدات في مصر، قطاع ربات البيوت، اللواتي استهدفتهن حملة السيسي الانتخابية.. اليوم أصبحت تشعر بفزع متواصل بعد أن أيدت الاستقرار.. فعلى الرغم من عالمها المحدود الذي انحصر بين المطبخ وحبال الغسيل، فهي تستطيع تضخيم عالمها هذا بالاهتمام بعوالم الآخرين.. لا يمر عليها يوم قبل أن تطمئن على حال زوجة جارنا المعتقل، وتتقصى أخبار قريب لنا محتجز لأسباب سياسية، ولا تشرع في الانتهاء من مناقشة مع بائعة الخضار حتى تدخل في أخرى مع الجزار، ومن التفاصيل التي تلتقطها تتكون رؤيتها، ورغم أن مواقفها دائما ما تكون عاطفية وحادة، وتنقلب سريعا إلى النقيض، ولا تعتمد فيها على تقارير وتحقيقات ومقالات تحليلية، وفي الغالب تتبنى تصورات خرافية، الأمر الذي يجعلها تظن في شخصي الضعيف زعيما لكيان سري من المناضلين تلقى تدريبه على يد سكان المريخ، إلا أنني أتعرف من خلالها على الإحساس العام السائد، فإذا ما زاد إلحاح والدتي بنصائح الحيطة والحذر يوما ما، أعلم أنها علمت بسقوط ضحية أخرى لهذا النظام بشارعنا أو الشوارع المحيطة به، وأن الخطر بات محدقا وقريبا.
مضى أسبوع على لقائي بمسؤولي بحركة سياسية، طلب مني وآخرين خلالها، أن أقدم له ورقتين بهما كشف حساب لعام على تولي السيسي رئاسة الجمهورية، ولأنه زعيم بلا برنامج، ومن الصعب – بل من المستحيل- تتبع لقاءات فخامته، منذ أن أحرج أحد المذيعين على الهواء عندما سأله عن برنامجه الانتخابي، وصولا إلى إحراجه لمصر كلها بسفره – ولفيف من المبدعين- إلى ألمانيا، قررت أن أعتبر هذا المقال كشف حساب عام على تولي السيسي.. مقال عن جرائم من غير الممكن إحصائها، عن قلق أمي والخوف وجمهورياته وممالكه على مر تاريخ المنطقة العربية، راجيا الله ألا يسألني أعضاء الحركة عن أرقام دقيقة.