على أرصفة النبي دنيال بالإسكندرية، يمتد طابور طويل من الكتب، يوما ما كنت أمر به، فجذبني غلاف بديع بريشة الفنان سيد عبد الفتاح، تزين بصور أعلام التلاوة، الشيخ محمد رفعت، وعبد الباسط عبد الصمد، ومصطفى إسماعيل كتاب على أحد الأرصفة. كان ذلك كتاب \”ألحان السماء\” للكاتب الراحل محمود السعدني، كعادته تناول السعدني بقلمه الساخر سيرة مشايخ دولة التلاوة في مصر، وفق في أغلب الكتاب، وتجاوز في بعضه، منها تهكمه الصريح على أحد المشايخ لأنه قزم! لم أفهم ماذا يضر كلام الله في أن يتلونه عباده ولو كانوا أقزاما؟ ألم يخلقهم هو على هيئتهم هذه؟!
لكن يظل لهذا الكتاب فضل تعريفي بقمم التلاوة المصرية، وأهمهم المقرئات، فأنا ابن التسعينيات -وما أدراك ما التسعينيات- حرمت كما حرم غيري من كل جميل بحجة أنه لا يجوز، ولا يصح، وعيب، وحرام.
حقا حرام، هذا أول شعور تملكني عندما قمت بالبحث عن تسجيلاتهن على الساوند كلاود واليوتيوب، فقادني بحثي لهن ولأكثر مما ذكر السعدني، وصلت إليهن من الباب الخلفي، من باب لا يعرف أقفال وزارة الإرشاد القومي، ومحاذير الرقابة، وتعليمات الرؤساء، وجهالة المرؤوسين، وثوابت المجتمع.
\”ثوابت المجتمع لا تسمح إلا بالقبح ولا شيء أكثر\”
ظل ثابتا لدى الناس أن المقرئة سكينة حسن هي أول من عرف صوتها ميكروفونات الإذاعة الأهلية عام 1920، إلى أن عثر على تسجيل نادر للشيخة مبروكة يعود لعام 1905، بعد ست سنوات فقط من اشتعال معركة فكرية، سببها كتاب قاسم أمين \”تحرير المرأة\” عام 1989، والتي استمرت إلى يومنا هذا، والغريب أنه رغم الجمود والتعنت اللذين قابلا حركة حقوق المرأة وقتها، والميل إلى حجب المرأة عن الناظرين، لم يصم المجتمع آذانه عن أحسن الأصوات، أصواتهن وهن يرتلن القرآن، وينشدن أروع القصائد والمدائح، ذلك لأنهم كانوا لا يزالون قادرين على تذوق الجمال.
كانت عادة متغلغلة في النسيج الإجتماعي، فالمصريون اعتادوا على إقامة نآتمهم لثلاثة أيام، وكان من الضروري مقرآت تقرأ في مآتم النساء. في البداية زحفن من باب احتراف النياحة – التعديد- إلى احتراف الانشاد والتلاوة، وما لبثن أن استقدمتهن الإذاعة الأهلية أولا، ثم المصرية بعدها، فذاع صيت الرائدات سكينة حسن، وكريمة العادلية، ونبوية النحاس، ومنيرة عبده، ووصل أجر الأخيرة لخمسة جنيهات، أي نصف أجر صوت الشعب، الشيخ محمد رفعت، كما يقول السعدني في كتابه. حتى دقت طبول الحرب العالمية الثانية، ومعها فتوى بتحريم صوت المرأة بدعوى أنه عورة، وكثيرة هي في مجتمعاتنا العورات. ومنذ ذلك الحين اختفت أصواتهن، ورحلت آخر الرائدات، السيدة نبوية النحاس عام 1973، ولآخر يوم كانت تقرأ القرآن في المناسبات والاحتفالات العامة، في سرادقات مقصورة على النساء فقط.
\”الشيخ أبو العينين نقيب المقرئين.. رجل في مواجهة جبل السائد والمسيد\”
فتح جدل السماح بعودة المقرئات للإذاعة والتلفيزيون مرتين، الأولى بأقلام من استجلبتهم الحكومة في حربها على الإرهاب من المثقفين، في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، والثانية عام 2009، عندما ناضل الشيخ أبو العينين شعيشع نقيب القراء، لإعطاء ثلاثين مقرئة عضوية النقابة، وطالب بحقهن في السماح لوصول أصواتهن إلى مسامع جموع المسلمين، لكن أمرا من هذا لم يحدث، استنادا على حديث مشكوك في صحته، كتب علينا أن نستمع لأصوات يشبه بعضها بعضا، وأخرى يصعب على الأذن المرهفة السليمة احتمالها، بديلا عن الأصوات العورة. لا فتوى الأزهر، ولا حتى جهود نقيب القراء، استطاعت أن تحرك في جبل الثوابت ذرة تراب.
\”خطوات على طريق التجديد.. السيسي في حوار من إذاعة القرآن الكريم\”
مفارقة عجيبة، الإذاعة التي حجبت أصوات الرائدات، وأصوات من دخلن بستان التلاوة مثل سمية الديب مؤخرا، هي من استضافت في مارس من العام الحالي، أثناء احتفالها الواحد بعد الخمسين، حوار الرئيس المستنير، وقائد حركة التجديد، طويل العمر يطول عمره وينصره على من يعاديه بمظاهرة، ولو كان طفلا عمره ثلاثة عشر عاما، ومصاب بحروق قد تودي برجله وحياته إلى الهلاك.
شدد السيسي في حواره على ضرورة مواجهة الإرهاب، والقيام بثورة دينية، بالطبع معروف مقصدها، إنتاج نسخة الإسلام المعتمدة من الدولة، في مقابل نسخة التيار الإسلامي.. لا يهم أن تقيم الدولة نسخة دينية رسمية تبقي على الجمود بنفس أدواتها السلطوية المعتادة، نسخة لا تختلف كثيرا عن أفكار عموم التيار الإسلامي إلا في مداهنتها، المهم أننا ننتهي من الإرهاب سريعا، فلا تحدثني عن الإجتهاد الآن، ولا عن حقوق الإنسان، ولا عن أي نقد ولو كان من الداخل.
كأي مواطن صالح يستمع إلى كلام السيد الرئيس، في خشوع رهبان التبت الذين يستكشفون الحكمة من الصمت الطويل، أحاول أن أستشف ما كان ينوي الحديث به، وأعيد مرارا وتكرارا ترتيب جمل وكلمات مقطوعة الصلة بما قبلها وبعدها، لترتيب عبارة واحدة مفيدة تأخذ بيدي لرحابة معرفة سيادته، فأجد فيها الكثير من الدرر، لكن لا يضر هذه الدرر شيء من نصيحة، وأجد النصيحة المطلوبة في صدد موضوع كهذا، أن يقوم السيسي أولا قبل أن يلقي على مسامعنا أطروحاته في تجديد الخطاب الديني، بإعادة فتح أبواب الإذاعة – التي تحدث من خلالها- للمقرئات، أن ينصف المرأة التي استهدفها برنامجه، والمتحدث الرسمي الوسيم للجيش، والمثقف متعدد اللغات مصطفى حجازي، وألا يترك الشباب الذين ألحدوا لكن لم يخرجوا من الإسلام، فريسة سهلة لأصوات لا تعرف مقام القرار من الجواب.