(1)
اقتربت من صديقي هامساً:
– أيوجد حكم شرعي لهذا الإختلاط الفج؟!
تلعثم برهة، ثم أجاب مستنكراً سؤالي:
– أيلزم حكم شرعي لعمل الخير؟!
أردت أن أفحمه بما اكتنزت من الأحكام الشرعية المنقولة عن ناقل، ولكني لمحت منه نظرة خاطفة اختلسها من متطوعة تبعد عنا أمتارا، فبادلته نيرانه الصديقة بالمثل، فتراجعت اقول لنفسي: \”لن أجد منذ اليوم لدى صديقي آذان\”.
من فاعلية لجمعية صناع الحياة 2009
(2)
يقول: تصور التيارات الإسلامية الشائع عن الدين، أن هناك دينا نقيا، كان يطبق في زمانٍ سالف، لم يتأثر بروابط عصبية، ولم يعرف الثقافة السائدة حينها، ولم يتسرب له الضعف الإنساني لأتباعه الأوائل، بل جاء لقومٍ على جاهلية، فخلقهم الإسلام خلقا جديدا منزوع الصلة بما قبله، تتنوع الأحكام بين تطرفٍ واعتدال، لكن في إطار ذلك التصور -الدين النقي- وعلينا إن كنا مسلمين حقاً، أن ننفض عنه ما لحق به من شوائب الزمن.
تقع المرأة في أحط درجات ذلك التصور، فإن كنا سننفض عن الدين ما لحق به من أتربة، هذا يعني الإرتداد بالمرأة لواقع ما قبل 14 قرن، لمجتمع ذكوري عبودي طبقي، يوجد فيه رائدات كسرن تابوهات المجتمع كالسيدة خديجة، لكن الأكثرية تُبع لا يورثن، ولا يحملن أسماء آبائهن، ويؤدن في بعض القبائل، وينسحب ذلك على كل من لا تمتلك مالاً يعصمها من الهوان، فجاء الإسلام وارتقى بالمرأة درجة، وترك المساواة الكاملة على عاتق المتأخرين.
لكن المتأخرين ينظرون إلى الوراء، إلى مجتمع طوبوي مثالي، قوامه رسول وصحابة، ولا توجد أهواء وعصبيات وثقافة عامة، بل ومصالح بينهم.. ومن أراد النظر إلى الأمام فعليه أن يستعد لقضية إزدراء وسط مباركة الجميع، سلطة ومجتمعا.
(3)
أواخر التسعينيات، كان العنف الإسلامي يلملم أذياله بعدما أرهق المجتمع والدولة، جلس شابٌ وسيم بملابس أنيقة عصرية، غير تلك التي عُرف بها علماء الأزهر، أو حتى الجلباب البدوي المستجلب من دول الخليج، يتحدث بحماس عن الدين العملي في مسجد كبير بحي الدقي الراقي، يحكي قصصا من عصر الصحابة بشكل درامي، ويقارنها بالواقع، يتعثر في حرف الراء فتضفي على حديثه ملاحة، فجمع نفرا كثيرا من المستمعين، كان ذلك الشاب هو عمرو خالد، أول قطرة في غيث الدعاة الجدد.
لم تميزه فقط تلك الأمور، بل تفرد عن غيره بعدد كبير من المريدات، رواد الحركة النسوية الإسلامية، وإن كن لا يحببن ذلك الاسم، يسمعهن روايات عن أمهات المؤمنين اللاتي خرجن للتجارة والحرب، فتندب المستمعات واقعهن، ويتسلحن بتلك القصص المنزوعة من سياقها، ها ذا دليل على خروج المرأة للعمل العام أيام الرسول، ويعتزمن الخروج، ليس فقط للعمل الخيري، بل والدعوي أيضاً، ذلك حسن من وجه، لكن وجهه الآخر بغيض.
كان الدعاة الجدد -ولا زالوا- أذكياء في تجنب الفتوى، هم فقط يسردون التاريخ بشكل مجتزأ، لتجنب الرمي بعدم التخصص أولا، وطبيعة الدعوة نفسها ثانياً، فالعقد غير المعلن -كما يقول الكاتب الصحفي وائل لطفي في كتابه \”ظاهرة الدعاة الجدد\”- هو إمتاع المستمع، فالدعوة الجديدة مرتبطة بمقاييس السوق، والسوق يطلب المتعة لا الفهم، الترقيع لا التجديد.
(4)
احتلت النسويات الإسلاميات الجمعيات والمبادرات الخيرية كـ\”صناع الحياة\”، وانتظم بعضهن في الدروس الدينية، وجلسن بعد فترة قصيرة -لا تؤهلن ثقافتهن الدينية- للخطابة، يلقين على زميلاتهن الملتزمات جديدا الوعظ \”المودرن\”، أخيرا أصبحن فاعلات في المجال العام، مثلت الظاهرة صرخة ضد تهميش المرأة من قبل رجال الدين الذكور، لكنها في الواقع صرخة هشة وملتوية، ترتد لتصير مشانق للأخريات من بنات جنسهن، مشانق حريرية تدعي الإنفتاح على العالم.
فهن وإن كن يخرجن للعمل العام فبشروط وضوابط، تلك الشروط والضوابط مستمدة من عصر سلف لا جديد فيها، الشكل حديث وعصري يخدع الناظر للوهلة الأولى، لكن المضمون قديم جداً، فقضية الحجاب كما هي، وأمور مثل مساواة المرأة في المواريث والشهادة، وحق تنقلها بمفردها، والعمل لتحقيق الذات لا لغاية اجتماعية وهدف ديني، لا اجتهاد فيها، لكنها مسندة هذه المرة بمبررات مختلفة، أغربها الفطرة.
في عهدي بالسلفية كنت أراهن خليعات، اليوم أراهن رجعيات، أعجب من نفسي، كيف قطعت تلك المسافة عدواً؟!
(5)
لا أعلم إن كانت الأستاذة \”أروى الطويل\” من مريدات عمرو خالد أم لا؟ لكن ما عرفته من خلال مقالها المنشور في موقع الهافنغتون بوست بعنوان \”أنبياء فوق النبي صلى الله عليه وسلم\”، أنها على نفس النهج تمضي، لم تتجاوز بعد أقاصيص خالد عن نساء صدر الإسلام، المقتطعة لدعم خروج المرأة للعمل العام، مع الإبقاء على كل قديم من أحكام الفقهاء المتأثرين بعصرهم ووضع المرأة فيه، فهي تقول في إحدى فقرات المقال:
\”إن فرض الحجاب بكل ما حوله من منظومة من غض البصر وإنتهاءًا بضوابط اللبس للرجال والنساء – لوضع الجميع ذكورًا وإناثًا – على قدم السواء من الإنسانية هو عين الفطرة، عين الحياة و عين السواء\”
تربط أروى بين الحجاب والفطرة، بعدما تروي لنا العديد من حكايات الصحابيات اللاتي خرجن للحرب والتجارة، وبغض النظر عن العديد من البراهين التي تقطع بأن ليس كل الصحابيات خرجن للعمل، فمنهن من وقرن في بيوتهن كـ\”أسماء بنت أبي بكر\”، بل إن بعضهن منعن من الخروج حتى للصلاة كـ\”عاتكة\” من قبل زوجها الصحابي الجليل \”الزبير\”، أي أن العصر لم يكن بتلك المثالية، ولم يكونوا مجردين من الأهواء والتقاليد.
فإن الحجاب الذي تربطه أروى بالفطرة، لم يكن بمستحدث في القرآن، بل كان غطاء الرأس للرجال والنساء من سمة العصر الذي خاطبه بعض ظواهر نصوص الوحي، لكنه عدل على الزي الذي وجد الناس عليه، فأمر بتعديل وضع الجلباب الذي كان يبدأ من الرأس حتى القدم، وعدم توضيحه لشكل الجلباب يعني أنه كان معروفاً للمتلقي، ورغم ذلك لم تلتزم به بعض النساء في العصر المثالي كـ\”عائشة بنت طلحة\”، لأنه لم يكن للحجاب تلك الحساسية التي نعرفها اليوم.
(6)
سيقول البعض، ما الداعي لنقد رأي أروى الطويل، إن كانت تبحث لها عن أسانيد تراثية لتفعيل دور المرأة في المجال العام؟ أليست أروى وزميلاتها من متبعي نسوية عمرو خالد، أفضل من الدواعش؟
إن رأي أروى لهو أخطر من الدواعش، لثلاثة أسباب:
لأنه أولاً يمهد الطريق لفكر الدواعش، اللعب بالتراث له خطورته، فكما تستطيع أروى الاقتطاع من التراث، يستطيع الدواعش الرد عليها منه بنفس الطريقة، بل سيجدون ما هو أكثر إفحاماً لبراهينها.
ثانياً، أن أروى تستمد رأيها من عصر ماض تراه مثاليا، وتسقط عليه أزمات عصرنا، فما كان مجتمعا مثاليا، فقد فهموا الوحي وفقاً لثقافتهم وعصرهم ومشاعرهم الإنسانية كـ\”الحب والكره\” من حيث إنهم بشر، وما كان النبي ولا الصحابة معنيين بحقوق المرأة كما نفهمها نحن اليوم، كان الإسلام كغيره من الأديان والفلسفات حلقة في تطور البشرية، وتعرقل بسبب تلك المحاولات للنظر إلى الوراء، إلى نوستالجيا مجتمع المدينة.
ثالثاً وهو الأهم، أن أروى تعتمد على تسويف قضايا المرأة المعلقة، الشكل المزخرف يغني البعض عن الخوض في أمور أعمق متعلقة بفهم التراث والدين، بفهم تشكلهما وطبيعتهما الجدلية، وطبيعة المجتمع الذي نزل فيه الوحي، فبدلا من أن ننقح الوحي من الثقافة التي خاطبها وقتما نزل لنصل لمبادئه المتجاوزة للزمان والمكان، نرقعه من الخارج، فيظل ما به وما نسج حوله من آراء فقهية دون مراجعة أو فهم أو نقد.
وفي مجتمع يعاني من أزمات متفاقمة لم يلمسها مشرط جراحي بعد، أبرزها حقوق المرأة، تصبح نسوية عمرو خالد كالرسم على صندوق قمامة.