يومها قمت بفتح حسابي على الفيس بوك متأخراً، هالني عدد المتحدثين عن انتحار عازفة الناي ندى سلامة، لم أكن أعلم من هي؟ ولماذا أصبحت قصة انتحارها ساحة نقاش مفتوحة يدلي الجميع بدلوه فيها؟
استغرق الوقت مني ساعة كي استوعب الأمر، بادرت أولا باكتشاف عالم ندى، من خلال تصفح ما قامت بنشره على صفحتها، أرشيف حياة المواطن في مطلع الألفية الثالثة.. عدد ضخم من المنشورات التي تتحدث عن الإكتئاب، والعالم الفاسد، والحياة السيئة، والبشر الأشرار المخادعين، ولكي أكون أمينا في نقلي، توجد بعض الكتابات التي تحمل قدرا من التفاؤل والإقبال على الحياة، لكن ما يبعث على الدهشة، أنها دائما إما يسبقها أو يتلو عليها بفارق دقائق منشور ذا مضمون سودوي!
كيف يمكن لإنسان أن يتبدل من حال إلى حال في خلال دقائق معدودة هكذا؟!
استفاض الكثيرون حول خسة وحقارة ما قامت به ندى من إشاعة خبر وفاتها، ثم تكذيبه في اليوم التالي، وأسهب آخرون أيضا في تقريظ هؤلاء الذين رثوها وقضوا الليل في بكائيات ولطميات على المرحومة، مع أنهم لم تربطهم بها صلة، وسمعوا اسمها لأول مرة مع انتشار الخبر، ووجه العديد نقدا لاذعا للخضوع لمواضيع النقاش السائدة، والمساهمة فيها، حتى وإن لم يكن للمساهم فيها ناقة ولا جمل ولا رأي فيه جديد، وإن كان الموضوع نفسه لا يرقى لأن يشعل مواقع التواصل، بتعبير محرري جرائد ومواقع معيارها جر رجل الزبون لا أكثر، ورغم النقد الذي طال كل جوانب القيم التي أسفرت عنها مواقع التواصل، يظل جوانب أخرى لم يقترب منها أحد، سأحاول أن أتحدث عن جانب منها هاهنا.
لكل تغير سياسي أو إقتصادي أو تكنولوجي قيم وظواهر وسلوكيات مصاحبة له، يعد أهم الظواهر المصاحبة لمواقع التواصل، تحولنا لجزر منعزلة، نلتقي كما نفترق؛ رؤوس منكسة على الهواتف والحاسبات الذكية، بالإضافة إلى علو قيمة تسجيل اللحظة بالكتابة أو بالصورة على معايشاتها ذاتها، كأن نلتقط صورا للطعام دون أن نأكل، أو أن نستغل وقت تواجدنا بحفلة غنائية في تسجيلها، متجاهلين أن سر مجيئنا في الأصل هو الاستمتاع بصوت المطرب، ويذكر لي أحد أصدقائي أنه حينما توفى ناشط سياسي ذا شعبية، اجتهد أصدقاؤه في التقاط صور للنعش كي يقوموا بنشرها على صفحاتهم الشخصية مصحوبة بكلمات مودعة، مما يجعل مثل هذه اللحظات تمر دونما أثر في النفس يذكر، أو خبرة حياتية ذات قيمة.
لكن يبقى أسوأ شيء على الإطلاق، المتاجرة بالآلام والمشاكل النفسية الشخصية على طريقة إعلانات التبرعات للمرضى والفقراء بإبتزاز المشاعر، وبينما تهدف الأخيرة لجمع التبرعات لمبرر نبيل وإن أساءوا السبيل لذلك، تهدف الأولى لحصد اللايكات ليشعر صاحبها بشيء من التقدير لذاته، لكن في أغلب الأوقات لا يعبر ما يكتبه مهما بلغ عدد المعجبين به عن حقيقة شعوره، بل ربما يكون على العكس من هذا، الأمر أشبه بضبط إنسان على تصرفات معينة بالمكافآت والعقوبات، فيتحول لآلة بشرية، في حالة مواقع التواصل، الإعجاب وإعادة النشر وتعليقات الإستحسان تقوم محل العقوبات والمكافآت.
صحيح أن زيف العواطف في مجتمعاتنا – وفي كل مجتمع عاش لفترات طويلة تحت قهر واستبداد- سمة رئيسية، يظهر ذلك بوضوح في الأفراح والتعازي، بل نحن المجتمع الوحيد – على حد علمي- الذي عرف وظيفة \”المعددة\”، التي يتمثل دورها في إضفاء الحزن على العزاء كلما ساده الهدوء مقابل عائد مادي، لكن مواقع التواصل لم تصبح فقط إنعكاسا لمساوئ مجتمعاتنا، بل قامت بمد الخط على إستقامته، فأصبحت حيواتنا الافتراضية وصلات من التعديد والإنشكاح المستمر بلا سبب، غير أن هذه الوصلات تلقى إعجابا من القراء، ولم تعد تظاهر بما ليس بداخل الفرد لتجاوز موقف عابر، كأن تجبر على الابتسام في وجه مديرك في العمل صباحا تفاديا لبطشه، بل أصبحنا نصدر للأصدقاء على مواقع التواصل بمحض إرادتنا مشاعر من \”الإيموشنز\” غير الحقيقية.
سالف كلامنا لا يعني أن كل حالة إكتئاب على الفيس بوك مزيفة، ففي ظل أسر أصبحت تتقابل في صالة المنزل بالصدفة، قد يسفر عنها حالات اكتئاب لبعض أفرادها، خاصة الأصغر سنا، وما التصريح بها إلا صرخات تنبيه.. ورغم ذلك أيضا يوجد لمواقع التواصل إيجابيات كثيرة، منها أنها ساعدت على اتساع حالة الجدل في المجتمع، وصارت معرضا للمواهب، وحررت تحكم الواسطة والمحسوبية في مجالات الإبداع على وجه الخصوص، ومنها انطلقت شرارة ثورات الربيع العربي، ومستمرة من خلالها بخلخلة أفكار وثوابت المجتمع، لكن يظل تحول مشاعر أجيال كاملة إلى مشاعر بلاستيك أحد الأمور المخيفة على المدى البعيد.. مع ذلك فأي إنسان لا يستطيع أن يتنبأ بما يمكن أن تصل إليه السلوكيات التي فرضتها مواقع التواصل، ولا يمكن بحال أن يوقف تطورها أحد، لذا فليس بوسعنا إلا أن نلزم أنفسنا بالحد الأدنى من العواطف \”الإيموشنز\”.