معتز حجاج يكتب: حوار مع صديقي المسلم.. جلسات إستتابة عائلية

صار لزاما علينا زيارة الأقارب في الأعياد، بالأمس القريب كان صغر السن يعفينا، كنا نأخذ العيدية، ثم ننطلق بحثا عن سُبل إنفاقها.. لا بأس سأعتاد الأمر عما قريب، هكذا حدثتني نفسي هذا العام أثناء شد الرحال لزيارة عائلية. على مقربة من منضدة أكل عليها الدهر وشرب، جلست في أدب مصطنع على أريكة أسيوطي عتيقة، وتجاذبنا أطراف الحديث مع أهل الدار، بعد الترحيب والتهنئة بجمل محفوظة، والسؤال عن الأحوال، جاء دور الحديث عن التابوهات، الدين والجنس والسياسة.
لم ينعطف الحوار للجنس بالطبع، ففي جلستنا بنات، لكنه إصطدم بالسياسة، وما إن تجاوزناها بأعجوبة، جاءت عقبة الدين. صاح المراهق، الابن الأوسط لرب الأسرة، أنه قرأ منشورا لي على صفحتي عن الدين لم يعجبه، علمت أنني مقبل على حوار عاصف سأخرج منه بصداع مؤلم. إنتقلنا من البخاري إلى مسلم، ومن الخوارج إلى المعتزلة، ومن علي إلى معاوية، بشق الأنفس حصلت على فرصة للكلام خمس دقائق متقطعة، لم تكن كافية لتوصيل فكرتي كاملة، ولم تنخفض أصواتنا إلا أمام باب المنزل، صافحنا الأسرة، ثم إقترب مني الأب قبل أن أذهب وقال: \”بلاش الكتب دي اللي هتبوظ دماغك وتخليك تلحد\”.
\”تقول الأسطورة المصرية إن القراءة من مسببات الإلحاد\”
يؤكد أصحاب هذا الزعم كلامهم، بقصة إلحاد مصطفى محمود في شبابه بسبب كثرة القراءة. الأمر في عائلتنا كان أكثر سوء، ففي العائلة شاعر شيوعي كثير الإطلاع له تصور مختلف عن الإسلام، مجرد تصور مختلف، لكن العائلة إعتبرته ألحد، فكل القرائن موجودة، الكتب، وسعة المعرفة، وتصور جديد لم يألفوه عن دينهم، أكيد ملحد.
ورغم أن العبد الفقير إلى الله لم ولن يصل لربع سعة معرفة هذا المثقف الشيوعي، لكن العائلة إعتبرتني سائر على الدرب. قارئ، ويكتب تصوراته غير الناضحة عن الدين على صفحته الشخصية، فإذا ربنا يستر عليه. لكن ماذا لو كنت ملحدا بالفعل؟ أليس هذا اختياري؟ فقد وصلت إلى سن الرشد أخيرا، ومن حقي أن أختار عقيدتي، وأن أقتنع بما يحلو لي.
\”حوار مع صديقي الملحد.. لن ينتهي قبل إسلامه أو التسفيه من شخصه\”
في عام 1986 قدر للأمة الإسلامية أن تستقبل كتاب \”حوار مع صديقي الملحد\” لمصطفى محمود، هذا الكتاب سوف يصبح حجية التيار الإسلامي والمتأثرين بخطابهم أمام الملحدين، ولما لا فالمتحدث مصطفى محمود، الذي يجيد صياغة البديهيات في جمل أدبية، كـ\”عندما تشرب الماء المثلج خلف كوب من الشاي الساخن بالطبع أسنانك ستؤلمك\”، والمتلقي ملحد يبدو في مظهر الغبي، رغم أنه \”تخرج من فرنسا وحصل على دكتوراه\”، إذا، فالإجابات لابد أن تكون مفحمة، والأسئلة وسائلها سذج طبعا. خذ هذه على سبيل المثال:
\”والذي يسألني لماذا خلق الله الخنزير خنزيرًا؟! لا أملك إلا أن أجيبه بأن الله اختار له ثوبا خنزيريا لأن نفسه خنزيرية، وأن خلقه هكذا حق وعدل\”.
هذه العبارة المنمقة لا ينقصها إلا قفا مخبر مصري ذا باع في المهنة، تعقبها عبارة بصوت جهوري \”قول آمنت بالله\”. بعد النجاح المادي الذي صاحب الكتاب، وشهرة صاحبه التي تضاعفت بين جموع المسلمين في مصر وخارجها، أصبح الأمر لعبة وبضاعة للبعض. كتاب يفحم الملحدين، خطبة تهزم صوت الإلحاد، مناظرة نارية للشيخ العلامة الفهامة يلقن ملحدا درسا قاسيا، ونسى الدعاة حال المسلمين أنفسهم، وحال عقيدتهم وتفرغوا للملحدين، أو لقبض ثمن سلعة رائجة تروي ظمأ المتدينين، لا تجديد ولا اجتهاد، حتى في الأمر الذي أقحموا أنفسهم فيه، اعتمدوا على الإجابات السطحية المعالجة أدبيا، ورجال الدين المسيحي في الشرق لم يبتعدوا كثيرا عن هذه الحالة، والنتيجة لا شيء.
دخلنا عصر الفضائيات ومواقع التواصل، وفتحت الثورة الباب للجهر بالأسئلة والآراء، تلقف الدعاة الجدد طرف الخيط، أحدهم نجح في عمل برنامج خليط بين الرسالة الوعظية والدراما، الجميع بعدها ساير الموجة، وواصلوا الانحدار، حتى طلب أحدهم مؤخرا من الملحد \”يكلم ربنا ويروي له ما يضايقه منه\”!
لم يكن الإلحاد بظاهرة جديدة، فهي ظاهرة قديمة قدم ظاهرة الدين ذاته، لكن تسليع العمل الدعوي هو ما جد، ولماذا في الأصل نتعامل مع الإلحاد كظاهرة تستوجب حصارها وإستئصالها؟
\”ظاهرة الإلحاد.. في الأمر رائحة السياسة\”
انتقلت دولة الخلافة برمتها في أحشاء الدولة الحديثة، ومعها أهم أركانها، الدولة ومؤسساتها ورئيسها حراس الدين، لكن الأمر ضاق بعض الشيء، ففي حين تُرك لمجتمع الخلافة مساحة العبادة والإيمان والكفر مفتوحة بعض الشيء مقابل جزية، قصرت الدولة الحديثة الأديان التي تستظل بظلها على السماوية فقط، وداخل الأديان الثلاث اكتفت بمذاهب بعينها، تدافع باستماتة عنها، وتنكل بالخارجين عليها، فالدولة تزعم تمثيل كل مصالح أفراد المجتمع، لكن التي تحدده هي من المجتمع، ويصبح هنا الدفاع عن دين الأغلبية -دين الدولة- رشوة اجتماعية لتأيد النظام السياسي.
الدولة لن تشد القيد عن آخره على الخارجين على دينها، فهي تعلم جيدا عواقب ذلك، الموقف الدولي، ومنظمات المجتمع المدني لن تسكت. لكن الدولة لن تقف مكتوفة الأيدي في حالة المزايدة عليها من جماعات دينية معارضة، كالحالة التي نعيشها الآن. إن كنتم مؤمنين فأنا أكثر منكم إيمانا، شكلوا فريق للقبض على الملحدين والشيعة ومن له تصور آخر لدينه، إغلقوا المقهى الذي يتجمع عليه الملحدين، ثم يخرج الرئيس ليتحدث عن الشباب الذين ألحدوا، في دولة على شفا الإفلاس.
ليس كل ما يفعل ويقال من الرئيس ومؤسسات الدولة يقصد به الرد على الجماعات الدينية المعارضة فحسب، فالرئيس والمؤسسات هم أبناء مجتمع لم يألف التعددية وقبول الآخر، واحترام حرية الرأي والفكر والمعتقد، ومن ينتظر من رجل يعتقد في الرؤى والأحلام سياسات تأسيس دولة مدنية تتسع للجميع، فهو إما غافل أو يتغافل.
\”جلسات استتابة عائلية.. الأمر يحتاج لوضع خطوط حمراء\”
أمام باب المنزل، وعندما كان يحادثني الأب ناصحا لأتراجع عن أفكاري، ظننت أنه يمزح بادئ الأمر، حاولت أن أستقي من وجهه أي علامات للفكاهة، وعندما تأكدت من جديته، وضعت له خطوطا حمراء بكل أدب، كي لا يفاتحني في أمر كهذا مرة أخرى، ولو في رداء النصيحة، وبحكم قرابتنا استقبل ردي بإحترام وتقدير، ظاهري على الأقل. سيكون الأمر مرهقا ومكلفا ماديا ومعنويا، إذا ما قررت أن أضع خطوطا حمراء لكل المتطفلين على حريتي، من الدولة والمجتمع على السواء. كل ما أملكه حاليا هو التساؤل ومزيد من التساؤل، والكتابة معبرا عما يدور بخلدي دون خوف، ربما في المستقبل، ومع الضغط المستمر، أستطيع انتزاع حقوقي الشخصية من بين مخالب الآخرين.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top