معتز حجاج يكتب: حكاية أول غرزة حكومية

الأسبوع الماضي، بينما كنت اطالع أخبار الفشل الحكومي المتلاحق، والمُحاط بعدد وافر من تصريحات مسؤولي الدولة المضحكة من فرط سذاجتها، شعرت أنني بحاجة لقراءة رواية \”عام التنين\” مرة أخرى، فأمسكت بها وتصفحتها من جديد.
عرفت هذه الرواية عن طريق صديق ليّ، عرفها بدوره من خلال مقال بلال فضل \”الخوف كأنه كلب\” بجريدة الشروق، بادئ الأمر لم أتقبل مفتتحها بسهولة، تكنيك الكتابة مختلف عن أي رواية قرأتها من قبل، وجرعة الفانتازيا عالية جدا درجة العبث، لكنه عبث منضبط كما يقول بلال فضل، كل ما سبق جعلني أراجع نفسي أكثر من مرة قبل أن أخوض في قراءة الفصل الثاني منها، وأجد نفسي متورطا في قرأتها حتى النهاية.

سرعان ما تبددت مخاوفي، وإستسلمت للشخصيات الغرائبية التي أبدع الروائي النابه محمد ربيع في حياكتها، بشكل يوهمك بأنك قابلت تلك الشخصيات يوما، لابد أن الصدفة جمعتك بـ\”نعيم أبو سبعة\” بطل الرواية، الذي يحاول خداع جهاز الدولة البيروقراطي بمحاولة إستغلال ثغراته، فاستخرج لنفسه شهادة وفاة كي يتقاضى بوليصة التأمين، وتهزك بعنف شخصية \”وهيب وهيب\” صاحب محل تغليف الكتب، وهو يصنع لولده المتوفي أرشيفا من الشهادات المدرسية والصحية المزورة، أملا منه في أن يظل على قيد الحياة ولو على الورق الرسمي فقط.

كنا صغارا لا يشغل بالنا وقتها إلا أن نُنزل من على ظهورنا حقيبة المدرسة التي ثقُلت علينا طوال اليوم الدراسي، ثم ننهي غدائنا بسرعة حتى نستطيع أن ننطلق إلى السويقة، نلعب السبع طوبات، وإستغماية، وعسكر وحرامية، كانت السويقة منفسنا لتفريغ الطاقة التى لم نفلح في إخراجها كاملة أثناء فسحة المدرسة.
يقولون إن المحافظ ورئيس الحي سيفتتحها العام القادم، عندما تفتح المحافظة باب التقديم للشباب الراغب في الحصول على محل بها، حينها سوف يكون أمامنا مهمة شاقة للبحث عن مكان آخر يتحمل شقاوتنا، كل عام كنا ننتظر أن تفتتح السويقة، لكن هذا ما لم يحدث قط، كل عام نجدها كما هي لم تتغير، فنعلن إنتزاعها من الدولة صباحا، وفي المساء يعلن عدد من شبيبة حينا الهادئ فرض الوصاية عليها وتحويلها إلى \”مُكنة\” لشرب الحشيش حتى شروق فجر يومٍ جديد.

كلما ظننت أنني سأفتقد الدهشة بعد كل الذي كان في مصرنا الحبيبة فيما تلى الـ 30 من يونيو، أجد أن خفة الدم المصرية وقدرتها على تحويل المأساة لملهاة لم تنضب بعد، فها هو ذا واحد من صناع القرار الذي يحمل قبل اسمه لقبا رنانا ترتعد له الفرائص، السيد اللواء طيار أحمد جنينة رئيس شركة مطار القاهرة الدولي، يقول عقب إختراق حمار لثغرة أمنية بالمطار، قاصدا بتصريحه لبرنامج \”آخر النهار\” على قناة النهار الفضائية دفع اللوم عن إدارته وطمأنة المواطنين:

\”أنه يُحتمل أن هذا \”الحمار\” حُمل على سيارة عن عمد، حتى يدخل هذا المكان ويُصور بنفس الطريقة التى تم تصويره بها لمسافة طويلة حتى يسئ لمظهر مصر الحضاري\”.
لكن ليس كل قول يبلغ مقصده، فقد أدان اللواء نفسه من حيث أراد أن يبرئها بتصريحه الهزلي، فواقعة الحمار لم تكن صدفة، بل مُخطط لها، ولم يكن الحمار هو وحده من اخترق الثغرة الأمنية، بل كان محمولا على سيارة، وبصحبة شخص ليقوم بتصويره حتى يسئ لمظهر مصر الحضاري، والسؤال الذي لم يطرأ على ذهن اللواء، أو أظن أنه لم يتوقع من أحد السؤال، فهو عسكري اعتاد أن يكون بين آمر ومأمور، لغة النقاش والسؤال والأخذ والرد لم يجربها بعد، هو أليس إختراق أمن المطار بهذه الصورة لصناعة مشهد من أكثر حوادث الإهمال طرافة يبرهن على ضعف مؤسساتنا وترهلها وإنحطاطها وتقصير القائمين عليها؟!
خرجت تصريحات اللواء مثيرة للسخرية أكثر منها مُدافعة عن هيئته الرشيدة، تصريحه هدم تصوري عن ذكاء الحمار الذي استطاع أن يغافل أمن المطار، الحمار كباقي الحمير لا يمتلك قدرات خاصة كما اعتقدت، لكن هناك من هم أقل منهم جميعا ذكاءا، لدرجة إلصاق تهمة الفشل الواضح الجلي، بيد خفية تريد الإساءة لصورة مصر وسمعتها.

في رواية \”عام التنين\”، ستجد مشاهد فانتازية غاية في الروعة تجسد فساد الدولة، وتُحلل طريقة الحكم، وتنقد الديكتاتورية، وتطرق خبايا نفس الحاكم والمحكوم ومثقفي السلاطين وعبد المأمور، لكن أفضل ما يميز الرواية غير الجمع بين الماضي والحاضر، وتلاشي الخط الفاصل بين الواقع والخيال، والتحليل السياسي والإجتماعي الشيق، في صورة خطابات يرسلها مجهول لحسني مبارك كي يساعده في السيطرة على الشعب، من خلال وسيط غير معروف يدعى \”صلاح\”، هو هذا الوصف الدقيق للبيروقراطية المصرية، والتعمق في نفس الموظف المصري، والمواطن الذي ينتظر أقل فرصة لاستغفال الحكومة، قبل أن تشاركه الحمير الهدف نفسه، لا لشيء غير إثبات تفوقه عليها، تقول الرواية على لسان بطلها في أحد الفقرات موضحا ما وصل له حال إدارة البلد، وكيف أنها كومة من الأوراق والثغرات لا تحتاج حظا وافرا من الذكاء، كالذي وهبه الله لعبده الفقير اللواء أحمد جنينة لكي تخترق.

\”نظامنا على درجة من الكمال تسمح باستخراج شهادة وفاة تحمل صورة المتوفي، لكنه من الغباء لدرجة أن صاحب تلك الشهادة يستطيع إستخراجها بنفسه\”.

كلما إلتقينا بعد طول الترحال في بلاد الله ننفض عن أنفسنا تراب السفر بالسؤال عنها، وكأننا نطرق باب الذكريات، لنؤكد لأنفسنا أن شيئا لم يتغير فينا وفيها، هل لا تزال موجودة بنفس معالمها؟ أم طرأ عليها تغيير سيجعل من الصعب أن نتعرف عليها الآن؟

لقد تركت المنطقة التي كنت أقيم بها منذ فترة كبيرة، وما عاد يصلني عن أخبار السويقة – الصندوق الأسود لذكريات الطفولة والصبا- إلا القليل مما اسمعه في تعليق عابر لأحد أصدقائي، لكن أثناء قضائي إجازة منتصف العام الدراسي الماضية بأسوان، أخبرني أحد أصدقائي، أن السويقة استولى عليها أحد موظفي الحي بعدما تاهت أوراقها بين أكداس الملفات وأختام النسر.. هذا المشروع الحكومي الذي كان يهدف وقتما فكروا في إقامته لمكافحة البطالة بين الشباب، بتمليكهم عدد من المحال بالسويقة، أصبح اليوم بعد أن أجره موظف الحي لأحد المواطنين، أول غرزة حكومية في انتظار مواطن صالح يبلغ عنها إدارة مكافحة المخدرات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top