معتز حجاج يكتب: المعتقل قصر.. والإفطار كونتيننتال

في صباح أحد الأيام من العام 1946 هرع مدير فندق \”إيتاب\” بمحافظة المنيا بصحبة حكمدار المحافظة إلى معتقل ماقوسة، وهو قصر لأحد الإقطاعيين المصريين إستأجرته منه الحكومة ليكون معتقل السياسيين، وشرع يسأل المعتقلين عن السبب الذي دفعهم لطلب تغيير وجبة الإفطار الكونتننتال بالفول والطعمية، فما إن علم منهم أنهم يريدون أخذ الفارق بين سعر الوجبتين وتوزيعه على فقراء المعتقلين حتى وافق على طلبهم على الفور، وصاروا يتقاضون كل طلعة شمس عدة جنيهات من خزانة الدولة التي اتفقت مع هذا الفندق تحديداً ليعد وجبات الطعام للمعتقلين، ويقوم بخدمتهم مجموعة من السفرجية برفقة مدير الفندق نفسه، كما كان من واجبات الحكمدار حضور أحد الوجبات يومياً للإطمئنان على راحة النزلاء.
نعم حدث ذلك في مصر قبل يوليو 1952، وما حدث بعد ذلك يكفينا في وصف بشاعته كلمة سعد زهران في مذكراته \”يوميات سجين سياسي في أوردي أبو زعبل\”، يقول: \”بعد ثلاث سنوات سمح للمعتقلين تسلم أحذيتهم، فقد عاشوا حفاة كل تلك المدة صيفاً وشتاءً، لم يتمكن الكثيرون من لبس أحذيتهم، فقد تفلطحت أقدامهم من طول عهدهم بالحفاء\”

يوم واحد فقط فصل بين عالمين، عصرين لا يوجد وجه شبه بينهما، هو يوم 23 يوليو الذي فرق بين أواخر عهدنا بالليبرالية، وأوائل عهدنا بالفاشية العسكرية، أيديولوجية العزة والكرامة.
منذ تصدره المشهد كبديل للرئيس المعزول محمد مرسي، وتعقد المقارنات بلا كلل أو ملل بين السيسي والرئيس الراحل جمال عبد الناصر، إنه يتورط في اليمن كما فعل سلفه، إنه يعتقل كما حدث في الحقبة الناصرية، إنه يطلق مشاريع كفتة مثله تماماً، يتحدث من منطلقاته.. إلخ، وأثناء الإندفاع في هذه النقاشات يتناسى الجميع أنها حقبة واحدة لا تتجزأ، صحيح أنه تخللها عدد وافر من تغير السياسات الدولية والإقليمية والاقتصادية، إلا أن منظومة القيم التي غرزها مؤسس الحقبة، لاتزال سارية المفعول، وهي عون السيسي وزاده، كي تحيا.. مصر على المصريين أن يموتوا قتلا وجوعا وقهرا على ناصية الحلم، فذهبوا يعتقلون ويقتلون كل من صادفهم في يوم عاسر.

لكن هل المقارنة بين شخص السيسي وعبد الناصر هي ما نحتاج إليه فعلاً هذه الأيام؟!
في إعتقادي أن المقارنة الأهم لابد وأن تكون بين الشعب الذي جاء عبد الناصر حاكماً عليه على ظهر الدبابات وعدة تفجيرات في العاصمة ومظاهرات مُدبرة، وبين ذلك الشعب الذي إختار بملء إرادته الكرباج بعدما أطاح بثلاث كرابيج سبقوه خلال عامين فقط!
لم يكن اللطف في معاملة المعتقلين من باب ديموقراطية الملك فاروق، أو رحمة تسكن نفس إسماعيل صدقي رئيس الوزراء المُلقب بجلاد الشعب حينذالك، كل ما في الأمر أن الحقبة الليبرالية ضمنت شيئا من تداول السلطة، فربما خرج واحد من هؤلاء المعتقلين وأصبح رئيس وزراء ونكل بمن اعتدى عليه في سجنه، والأمر الثاني، وهي مفارقة مرة، أن الإنجليز منذ إحتلالهم لنا وقد عمدوا على إيقاف الإيذاء البدني لأي سببٍ كان، ومع أن العقاب بالإيذاء البدني كان قريب العهد، لكن على ما يبدو أن تعليمات المدير الفني الأجنبي في مصر دائماً ما كانت تلقى آذاناً صاغية من قديم الأزل، بقوة السلاح أًغلقت صفحة مشرقة على ما فيها من إخفاقات لنطل برؤوسنا على عهد البطل المخلص.
\”تعس ذلك البلد الذي يحتاج إلى بطل\”.. (برتولد برخت، مسرحية جاليليو)
بعد انتهاء المظاهرات المطالبة بسقوط الديموقراطية، وإلغاء قرارات الـ25 من مارس عام 1953، خطب عبد الناصر في الجموع المحلقة حول قصر الرئاسة قائلاً: \”لن تكون هناك ديكتاتورية إلا ديكتاتورية الشعب، وإن الثورة ستستمر لتحقيق أهدافها كاملة بفضل إتحاده وتعاونه\”، تعتبر هذه الجملة مستهل مرحلة الشعب وعبد الناصر.. الإتنين في واحد، فقد استثمر عبد الناصر ولع الشعب المصري بشخصية الخارجين على القانون، وحبه للسلطة الأبوية المكتسبة من طول عهده بالإقطاع، ضرب كل ذلك في خلاط هيكل وأنيس منصور وحليم وجاهين وأم كلثوم، ونخبة من الكتاب والمثقفين والفنانين لتصنع من شخصه حبيب الملايين، إبن الشعب الذي يستطيع معرفة رغبات الشعب عن طريق التواصل الروحي، هذه ليست مزحة من كاتب المقال، هذه الجملة ذكرها أنيس منصور في عموده اليومي بأخبار اليوم.. إستطاع عبد الناصر بعدما قبض على كافة أدوات إنتاج الخطاب الأيديولوجي، أن يحول الشعب إلى قيمة مطلقة، على الرغم من أنه في واقع الأمر كم مهمل لا إرادة له في مصيره، وهو شعب واحد مصطف خلف زعيم يحقق رغباته دونما آليات إختيار، غير أن ما يعكر صفو هذا الاصطفاف أنصار الرجعية والإستعمار العملاء.
ظل هذا الفكر رائجا بين أوساط المصريين، ليس فقط في صفوف شيعة عبد الناصر، بل حتى في من ثاروا على إمتداد حكمه العسكري، فها هو أمير عيد المغني الذي يمتلك من المواقف السياسية المشرفة ما لا يمتلكه صوته، يقول في أغنيته الأشهر \”مطلوب زعيم يكون دكر\”، ومن المعلوم عن أمير بالضرورة أنه لا ينتمي إلا للثورة، فالدنيا في نظره كما تعلمون شمال، هكذا يلخص فلسفته وخبرته السياسية في أن الرئيس لابد أن يكون دكراً، والدكر في الخيال الشعبي عبد الناصر لا غيره.. أين أشيائي؟!
وكأنه لا يفنى ولا يستحدث من العدم، شبح مخيف يطارد هذا الشعب حتى ولد الولد، يحاصره بأسلوب تفكير طبعه قبل موته وبموته في كل مناحي الحياة، يتلبس قطاعا عريضا من المجتمع، ليخرج لنا بشحمه ولحمه في 2004 في صورة أغلب مؤسسي كفاية، أولى الحركات الإحتجاجية التي مهدت لثورة يناير، فيعيد إنتاج نظامه في صورته الرديئة بفضل أعضاء تمرد ناصريو الهوى، في يوم مقداره الثلاثون من شهر كان ترتيبه السادس من العام الثالث عشر بعد الألفين.. إن الصراع الآن ليس بيننا وبين السيسي ونظامه، المعركة أصعب من ذلك بكثير، معركة ضد أمزجتنا نحن المستبدة الغارقة في التفكير الأحادي.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top