– قبل 33 عاماً، حينما أرسل الشعراوي بيانا شديد اللهجة لمجلة \”اللواء الإسلامي\” ضد ما ينشر في الصحف من ضلال، كان قد قطع مشواراً طويلاً على طريق النجومية، جعلته معصوماً من النقد، يستطيع بكل بساطة أن يصف المفكر زكي نجيب محمود، والأديبين يوسف إدريس وتوفيق الحكيم بـ\”أهل الضلال\”، والسبب ما نشره الأخير من سلسلة مقالات في الأهرام تحت عنوان \”حديثي مع الله\”.
\”كيف يتجرأ كاتب بأن يقول إنه يحادث الله كما يحادث صديقه؟\”، قال الإمام مستنكراً، لكنه لم يقل: كيف لبشرٍ مثله أن يرفع ملك السعودية البشر \”فهد بن عبد العزيز\” إلى مصاف الآلهة، واصفاً إياه في قصيدة بـ \”ظل الله في الأرض\”؟! (1)
فارق شاسع بين من يجعل من سلطة أرضية سلطة فوق النقد، وبين الحكيم الذي يدعو في مقاله، أن يؤسس الدعاة مواعظهم على عدم الإكراه.
وتحت تأثير سلطة الإمام، اندفع وزير الثقافة ووكيل مجلس الشعب ونقيب المحامين وعدد من المثقفين في الهجوم على جبهة الحكيم وإدريس.. تراجع كلاهما، بينما لاذ زكي نجيب محمود بالصمت.
الفيلسوف يدرك أن \”الشعبوية\” تنتصر على صوت العقل لا محالة.
١- أصنام من لحم ودم
– التقيت صديقي قُبيل عيد الفطر، وبعد وصلة التهنئة المعتادة، انحنى برأسه نحوي وقال: \”بس أنا زعلان منك.. مالك بالشعراوي؟\”.. يحدث كثيراً أن يوقفني أحد أصدقائي معاتباً أو مستفهماً عن كلام كتبته على صفحتي الشخصية على الفيسبوك، لكن بهذه الطريقة المتكررة لم يحدث مطلقاً.
تلقيت على \”البوست\” سيلاً من السباب في التعليقات والرسائل، سهرت الليل أضم أصحابها لقوائم الحظر، بل اضطررت لأول مرة منذ أن التحقت بهذا العالم الافتراضي، الذي أجد فيه متنفساً لرأيي، أن أغلق التعليقات على منشوراتي أمام غير الأصدقاء.
البعض قال لي: \”اذكروا محاسن موتاكم\”، وكأننا نتحدث عن رجل من عوام الناس، وليس رجلا معروفا ترك خلف ظهره ميراثاً مؤثراً، وقد تخلى بتصديه للعمل العام عن خصوصية حياته، لذا من حقنا أن نضع ميراثه موضع مساءلة، وإلا تصبح دراسة -مثلا- عهد رئيس ما في ذمة الله، ذكرا لمساوئ المتوفى، فلنعطل أقسام التاريخ بالكليات إذن.
والبعض الآخر رماني بعدم التخصص، رغم أن ما ذكرته في \”البوست\” من سقطات الإمام، معظمها، شطحات منه في غير مجاله (علم البلاغة)، في الطب، والسياسة، والاقتصاد، وحتى علم الفضاء، فهل تخصص الرجل يتسع لكل هذا؟!
لكن أكثر التعليقات إفحاماً لي، كان تعليق: \”لماذا الآن؟\”، فأي إجابة تلك التي تستطيع بها إقناع مواطن يحيا في مصر في هذه المرحلة، التي صعد فيها رئيسان إلى العرش، أحدهما نُظر إليه على أنه خليفة، والآخر كآخر المواطنين الشرفاء؟
لماذا الآن؟ لأننا نهوى تضييع الوقت!
٢- فقرة الساحر.. الإمام على حبائل السياسة
– في ثلاثينيات القرن الماضي، حمله والده إلى القاهرة للدراسة في الأزهر الشريف، وحمل هو معه ثلاثة أشياء، القرآن وقيم الريف وذكاء الفلاح.. هذا الذكاء الذي جعله يؤسس لنفسه قاعدة لا يحيد عنها \”كن أول المادحين، وألطمهم -فيما بعد- إن كانت هناك منفعة، وإن كنت في مأمن من بطشهم\”.
فتجده يمدح بقصيدة حماسية، أقرب للشعر المدرسي، الملك فاروق: \”فإذا الطلعة السنية لاحت.. وتجلى الفاروق بحبل موطد.. كبر الحشد والأكف تلاقت.. بين من ردد الهتاف وزغرد\” (2)، ثم بعد نجاح حركة الجيش في يوليو 1952، يسارع في تأييدها بقصيدة حماسية أيضاً، فقصائد الرجل كلها ملتهبة، قائلاً: \”أحييها ثورة كالنار عارمة.. ومصر بين محبور ومرتقب.. شقت توزع بالقسطاس جذوتها.. الشعب للنور والطغيان للهب\”! (3)
رغم ذلك، للرجل مبادئ لا يتنازل عنها حتى ولو خسر مؤقتاً، فهو عدو عنيد للشيوعية، مما دفعه للسجود شكراً لله حينما هزم الجيش المصري في 1967، سجد والأرض لم تشرب دماء المجندين البسطاء بعد، لأن النظام كان في أحضان الروس، بينما هو نفسه من رثى جمال عبد الناصر -رئيس النظام المتعاون مع الملاحدة الروس- بعد وفاته، سار مع تيار عام من أصحاب الرأي، انبرى يمجد الرئيس الراحل، فقال فيه؛ \”ليس بالأربعين ينتهي الحداد على الثائر الملهم، والقائد الحتم، والزعيم بلا زعم\”.. كان -رحمه الله- ثائرا ملهما.. وحده الشعب الذي كان ملحداً! (4)
وفي سفينة السادات، وجد الرجل نفسه محاطاً بالإجلال والتقدير، وزيراً للأوقاف، فلمٌ لا يقول عن ولي نعمته تحت قبة البرلمان مستخدماً آية كريمة (والذي نفسي بيده، لو كان لي في الأمر شيء لحكمت للرجل الذي رفعنا تلك الرفعة، وانتشلنا إلى القمة ألا يُسأل عما يفعل وهم يسألون)! مما دفع الشيخ الوفدي عاشور محمد نصر أن يقول له: \”اتق الله يا رجل، لا أحد فوق المساءلة\”.
وقد أثار كلام مولانا عاصفة انتقادات، حتى الشيخ كشك التكفيري وقف ضده، لكن مولانا لم يكن أمامه بد من أن يقول هذا، حتى لو أوقع نفسه في خطأ يصعب مداواته، فالجلسة كانت استجوابا للإمام عن الفساد المستشري في وزارته والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، فكان عليه أن يضع الرئيس في جملة مفيدة كي يصفق المجلس وينتهي الاستجواب بالنصر المظفر له وإسقاط عضوية الشيخ عاشور، فعاشور لا يجيد التصفيق كما ينبغي! (5)
يده التي وضعها على كتف مبارك بعد نجاته من محاولة الاغتيال في أديس أبابا (6)، ونصحه له في كلمة بين اللين والشدة، صنعت منه صورة العالم غير الهيّاب، رغم أنه طوال فترة حكم مبارك، لم يفتح فمه إلا بالاستحسان، وفي تلك اللحظة تحديداً كان قد بلغ من العمر والمكانة ما يحفظه من شرور البهدلة في المعتقلات.. الإمام دائماً يحسن توقيت تسديد اللكمة.
٣- صانعو الأصنام.. على أكتاف من صعد مولانا؟
– مهما كنت معجباً بمرونة الإمام، التي تجعله يقفز من معسكر إلى الآخر دون أن يعير انتباها لما سقط منه، لكن تعليق الظاهرة برمتها على عبقريته الريفية البسيطة وحدها، أمر يجانبه الصواب في ظني، فإن كان الإمام لا ينتبه لأخطائه، فلماذا لم ينتبه لها مستمعوه؟
صعد الشعراوي في لحظة هزيمة، وانكسار المشروع الناصري، وبدء تخلي الدولة عن مسؤوليتها تجاه المواطنين، سقط العديد من أبناء الطبقات المتوسطة للفقيرة، وتضررت الأكثر فقراً، بينما سمح النظام الجديد لقلة منهم بالصعود بكل أساليب الغش والخداع، هؤلاء الآن رموز دولة مبارك ومن تبعه.
كان الناس مرهقين حقاً من تلك التقلبات السريعة، فبلاد تغتني بالنفط وبلاد تفلس، وقوى عظمى تتفكك وأخرى تتشكل، وظواهر اجتماعية جديدة تظهر، فصنعوا من أكتافهم سلماً للشعراوي ليطمئنهم، ليقول لهم: \”اهدأوا، العالم لن ينهار الآن\”، لأن \”من اخترع الكلينيكس، خيرٌ ممن وصل الفضاء\”، كما صرح بذلك في لقاء تلفزيوني عام 1984! سننتصر في النهاية، سيختبئ منا اليهودي خلف الحجر، علينا فقط ألا نحرك ساكناً وننتظر، والله سيرسل لنا نصره المبين.
مد الرجل يده وعقلية الريفي المتواكل للاهثين خلف عباءته، ارتضى المهمة التي أتمها على أكمل وجه، دون وعي منه أغلب الوقت.. تغيير وجهة الغضب ضد النظام القائم، إلى معارك مع أعداء وهميين، ضد عمل المرأة والمعترضين على ختانها (7)، ضد الاختلاط في الجامعات (8)، ضد الأقباط (9)، ضد الملاحدة الشيوعيين (10)، ضد زراعة الأعضاء (11)، لأن المرض قضاء وقدر، ضد العقل باختصار.
اثنان فقط لا ضد لهما، ذهب السلطان وسيفه، فأخرس النظام العسكري القائم أي صوتٍ ينتقد مولانا، المُسكن الفعّال للمواطنين.
٤- عمائم تحت القصف
– لم يرق للفيلسوف الدكتور فؤاد زكريا، ما يرمي إليه حديث الشيخ، فانتقده مرتين، الأولى ضد زعمه بأن \”المرأة يجب أن تكون مستورة كي لا يشك زوجها في بنوة أبنائه منها\”، طاعناً بذلك في شرف ملايين من المواطنات غير المحجبات في المجتمع، والثانية كان تفنيدا لزعمه بإهمال العقل، وتساءل مفكرنا: لماذا يهدر الشيخ قيمة العقل؟!
لكن أحداً لم يجيب، أبناء مجتمع الصوت الواحد كانوا قد سلموا له دفة الماضي والحاضر والمستقبل، وذهبوا يسترخون من أعباء الواقع.. لم ينتبه أحدهم إلى لهجة الإمام التي باتت متعالية، تجلد ظهورهم، ظهور الذين رفعوه لهذه المكانة، وتطبطب على ظهور السادة المسئولين، فسُلطت كاميرات تلفزيون الدولة على فضيلته، حتى صار التلفزيون مدينا له بمليون ونصف المليون حين وفاته، وسمحوا لأصدقائه رجال الأعمال الإسلاميين -لصوص أموال غربة المواطنين في بلاد النفط- بالعمل، ومن ثم \”تنفيع\” شيخنا الجليل (12)، فطالب بتغيير سياسة مجانية التعليم (13)، وحمّل الشباب مسؤولية البطالة (14).. تلوثت يد المتصوف النقية بالسلطة والمال.
رغم أن جيلي ورث عن آبائه تقديس الشعراوي، وأن مسلسل \”إمام الداعاة\” شكّل كل معرفتنا به، إلا أن مواقع التواصل وسرعة الوصول للمعرفة اليوم، أجازت لبعضٍ منا تشكيل آرائه بعيداً عن سلطة الدولة ورجال دينها.. الدين المسالم مع النظام، أسدٌ على الشعب.. فتساءلوا: أليس من حقنا أن نكتب سيرة مغايرة لأحداث المسلسل؟ أن نسأل لمن أجّر الإمام عمامته؟
———–
مصادر المقال:
(١) إبراهيم عيسى، أفكار مهددة بالقتل، صـ43
(٢) المصدر السابق، صـ40
(٣) المصدر السابق، صـ41
(٤) إبراهيم عيسى، مقال هذه شهادتي عن الشعراوي 7
(٥) مشاجرة الشعراوي والنائب الوفدي الشيخ عاشور محمد نصر.
(٦) كلمة الشعراوي لمبارك بعد محاولة اغتياله في أديس أبابا.
(7) رأي الشعراوي في عمل المرأة. والختان
(٨) رأي الشعراوي في الاختلاط.
(٩) رأي الشعراوي في الأقباط.
(١٠) رأي الشعراوي في النكسة 1967
(١١) رأي الشعراوي في زراعة الأعضاء.
(١٢) رأي الشيخ في شركات توظيف الأموال.
(١٣) رأي الشيخ في مجانية التعليم.
(١٤) إبراهيم عيسى، مقال هذه شهادتي عن الشعراوي 9.