معتز حجاج يكتب: أسوان.. أسطورة الشعب الطيب بطبعه

لا يبارح هذا الموقف مخيلتي، كنت صغيرا لم أبلغ أعوامي التسع بعد، وأمام جمعية \”أبناء المريس بأسوان\” افترش ثلاثتنا أريكة خشبية، أنا وأبي ومشرف الجمعية، استغرق هذا البناء من والدي دهرا لتأسيسه، كما استنفذ فيه جدي لأمي عمره.. الآن يمكن لابناء القرية الواحدة أن يأنسوا بعصبيتهم في الغربة، غربة تبعد مائة كيلو متر فقط عن أصولنا بمحافظة الأقصر.

ليلتها اقترب من مجلسنا عابر مستبشرا، دنا من المشرف يسأله عن صحة نسب عريس متقدم لخطبة ابنته لقريتنا، لم يستلزم الأمر وقتا كبيرا من هذا الهرم، دقائق وجاءه بالخبر اليقين \”لا ينتسب لنا\”.. كيف؟ ولماذا يراوغ الرجل في أمر خطير كهذا؟!

دارت هذه الأسئلة برأس السائل حتى قطع عليه والدي أفكاره قائلا: \”طالما أخفى نسبه يجب الحذر\”، استحسن المشرف القول، وأضاف: \”بصراحة يا حاج هذا نسب، ولا يمكن أن أخفي عنك ما أعلمه، هذا الرجل له شريك في تجارته جمسي -لفظ تحقير للمنتسبين لقبيلة الهلايلة- فأرجو أن تسأل عنه جيدا\”.

امتقع لون الرجل، وغارت عيناه في محجريهما، وارتسمت على وجهه علامات الغضب، وعاد عازما على أن يلقنه درسا لا ينساه، قبل حتى أن يتحقق من الإدعاءات.. توتر الأجواء لم يشجعني على اقتحام الحديث مستفسرا عن سر اشمئزازهم من الهلايلة، لكن نظرات الغضب، وعلامات الدهشة، والهمس عند ذكر \”الجمسة\”، كانت كفيلة بإخباري أنه كلام كبار ضل طريقه إلى أذناي. وتعلمت الدرس الأول، هناك أقوام أقل من البشر، لا يجب الزواج منهم، ويحسن تجنب مشاركتهم العمل، هؤلاء هم الهلايلة.

\”ولن تعدم رجلا لم يسبه مرتضى.. لكن العنصرية أشعلت مواقع التواصل\”

كأي مواطن عبر عن رأيه في زمن الصوت الواحد، بطش بأحمد الميرغني لاعب الزمالك السابق، ووادي دجلة حاليا.. انتقد الميرغني نوبي الأصل عبر حسابه فشل السيسي في محاربة الإرهاب عقب الهجمات الإرهابية على سيناء التي وقعت مؤخرا، استل كل مؤيد للنظام سيفه، فسخ ناديه التعاقد معه، ونالت منه أنصاف الرجال، لكن مرتضى منصور المتفرد دائما كان له حضور مختلف.. في مداخلة له مع برنامج وائل الإبراشي أثناء استضافته للاعب، سبه بألفاظ عنصرية، فقامت التنظيمات النوبية بالرد عليه ومقاضاته.

إن كنت متابع للشأن العام من خارج مصر، قد يدفعك ما تشاهده على مواقع التواصل إلى الاعتقاد أن مجتمعنا يبغض العنصرية، ويحاربها في قلة من أمثال مرتضى.. لا تتعجل الحكم، أدعوك إلى أن تقترب أكثر من عالمنا، أسوان تحديدا.

\”الكائن الضئيل.. ليتحدث عنا تشيخوف\”

قبيل ثورة يناير عصف بمحافظتنا الجنوبية ثورة أفكار، تفككت العصبيات قليلا بسبب الهجرة الداخلية، وعاد الطلبة المغتربون بجامعات ومعاهد وجه بحري متأثرون بالحراك السياسي هناك، وانتشرت جمعيات المجتمع المدني تحدثنا عن حقوق الإنسان، وتشكلت طبقة قراء جدد مع انخفاض أسعار الكتب بفضل مشروع القراءة للجميع، وحملنا الإنترنت على الإشتباك مع واقعنا المحلي والقضايا العامة، لكن كما تقول إحدى قوانين الميكانيكا \”يستحيل رصد حركة الأجسام إلا من خارجها\”، كان لانتقالي إلى الإسكندرية طالبا الدراسة، العامل الرئيسي في اكتشاف نفسي ومجتمعي القادم منه.. وجدت العنصرية هنا كما درجت عليها هناك، لكن الحكم على الشيء وأنت ليس طرفا فيه يكون أكثر موضوعية، وعلى ضوءه تبينت عيوبي وعيوب أهلي.. راوغت أولا من الحقيقة، ثم استسلمت لها في النهاية، أسوان ليست بلد الطيبين، بل بلد العنصريين.

عنصرية تشعلها السياسة، وتحميها القبائل ذات السيادة، ويدفئها مفاهيم الناس عن الدين، ولا تتوجه للهلايلة وحدهم، الكل هنا يبغض الكل، يتهامسون فيما بينهم عن العرق السامي والعرق الحقير.. القبائل العربية ترى النوبيين همج، وتسميهم \”البرابرة\”، والنوبيون يرونا مستعمرين قمنا بغزو أراضيهم، وكلاهما يصطف كأولاد عم إذا ما نشب حادث طائفي ضد المسيحيين، بينما يتفقون جميعا -حتى المسيحيين الحلقة الأضعف- على أن الهلايلة هم العرق المتخلف الذميم بينهم.

الأمر أشبه بقصة \”كائن ضئيل\” للروائي الروسي \”أنطون تشيخوف\”.. موظف يقوم بعمله لوقت متأخر من ليلة عيد الفصح، بينما مديره الذي يستنزفه يحتفل في حانات المدينة، يقطع الموظف الغرفة ذهابا وإيابا يفكر في وضعه ممتعضا، وفجأة يقوم بدهس صرصار يتمخطر على مكتبه، يضربه بعنف مسقطا غضبه على كائن ضئيل.. لم تنتهي القصة، لا تزال في بلدتنا حكايات عن الاستضعاف والكراهية.

\”نهاية غير سعيدة قد لا تعجب القارئ\”

منذ عام فاتح أحد اقربائنا أسرته في الزواج، لم تفرح الأسرة كما هو متوقع، ثاروا ضده، كيف تجرؤ على طلب يد عروس من الهلايلة؟! تمسك باختياره حتى قدم إلى أسوان من قريتنا خصيصا عقلاء العائلة، ضغطوا عليه فقاومهم، رموه بأحاديث حسن اختيار النسب، فرد عليهم بحجج دينية أقوى، اتهموه بإلحاق العار بالعائلة وإخوته البنات، فذهب لخطبتها بمفرده، هددوا أسرة العروس، فرفضته الأسرة خشية العواقب.

حضرت هذا الحادث الجلل، لم أقف بجوار العريس المفترض، لم أعتل كرسي السفرة متقمصا دور أحد خطباء الثورة الفرنسية داخل مقهى عتيق بإحدى ضواحي باريس، وألقى فيهم خطبة عصماء عن شر العنصرية وما تجلبه.. اتضح لي حينها أن تحريك جبل العرف السائد ليس بالأمر الهين، والتغيير عسير وبعيد جدا، بعيد عن عائلتنا، وعن بلدتنا، وعن وطننا.. ستهاجم بشراسة، وقد تنقطع صلتك بأقرب الناس إليك، ولن يقوى أكثر أقربائك تفهما لحقك في اختيار شريكة حياتك إلا على التزام الحياد.. الحياد الذي يقتل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top