معتز حجاج يكتب: نصر أبو زيد.. مفكر في مواجهة مُلاك الحقيقة

عقب مولدي بثلاثة أشهر، تحديداً يوم الجمعة الموافق 2 أبريل 1993، امتلأ مسجد عمرو بن العاص -أحد أكبر مساجد القاهرة- بحشدٍ غفير، اعتلى المنبر خطيب مُفَوّه، حوقل وبسمل، ثم أعلن على الجمع فرمانه، الدكتور نصر حامد أبو زيد مرتد، سرت بين المصلين همهمات مُستحسِنة، لم يُعربوا عن ذلك مهللين، لأن ارتفاع الأصوات أثناء الخطبة حرام شرعاً، لكن الطعن في عقائد المسلمين من أعلى المنابر يجوز أحياناً!
في مايو 1992 كان قد تقدم أبو زيد بأوراقه، أحد عشر بحثا وكتابين بينهما كتاب \”نقد الخطاب الديني\”، للجنة الترقيات بجامعة القاهرة، تعرضت مقدمة الكتاب المذكور للصلة الوثيقة بين شركات توظيف الأموال التي انتشرت فضائحها واحدة تلو أخرى في تلك الآونة، وخطاب الإسلام السياسي المساند لها تحت غطاء تحريم فوائد البنوك.
اعترض أحد الأعضاء الأستاذ عبد الصبور شاهين على الأوراق المُقدمة، صوتا مقابل إثنين كانوا قوام اللجنة، مع ذلك كان لرأيه تأثير أقوى من صوته الوحيد، ثأثير مستمَد من تياره الذي كان قد اكتسح داخل الحرم الجامعي وخارجه حينها، فهل كان رفضه وخروجه بعدها ليُكفر أبو زيد من مسجد ابن العاص خالصا لوجه الله، أم كان لعمله مستشارا دينيا لشركة الريان -بجوار وظيفته الحكومية- دورا في تقييمه؟
لا أزعم التفتيش في صدور العباد، لن أكون مثلهم، فقط أدعوكم أن تضعوا هنا علامة استفهام، ولنمضي سويا إلى عالم نصر أبو زيد، فكره وأثره ومأساته، أو مأساتنا جميعا.
عالم يتوحش.. سنخوض معاركنا معه بشعر لحانا
هكذا قررت في الصف الأول الثانوي، أن أحارب طائرات وقنابل غربية أمطرتنا نحن جماعة المسلمين، في أفغانستان والشيشان والعراق وقبلهم فلسطين، وجدت في الرؤية الإسلامية التي قسمت العالم لفريقين، أخيار وأشرار، مؤمنون وكفار، ملاذى في عصر عاصف مضطرب.
قصرت البنطال، وأطلقت لحية لم تنضج بعد، فكان وجهي أشبه بكرة علقت بها خضرة الملعب بعد تدحرج طويل.

حفظت سبعة أجزاء من القرآن بالتجويد، مع إطلالات على التفسير وأسباب النزول، وبعضا من الحديث، وما تيسر من الفقه، والأهم من كل هذا، كنت قد تشربت السمت، الردود المكثرة من الدعاء بلغة عربية فصحى واستدعاءات متواصلة للنصوص المقدسة، حتى وإن كنا نتحدث عن أتفه الأمور، على هذا النمط ضمنت لنفسي مكانا في جماعة \”غرباء\”.
لم أتحمل هذا التغير في سلوكى كثيراً، كنت غريبا بين أقراني المراهقين بمظهري السلفي، تخليت عن المظهر ولم تتبدل الأفكار، وانقطعت عن الدروس فيما بعد، لكن قبل هذا كله وقع حادث سيكون له بالغ الأثر في نفسي.
شيخٌ من وجه بحري قدم إلينا في أسوان لإلقاء محاضرة، قال له زميلي في الدرس -والذى كان يكبرني بأعوام قليلة-  تفسيرا جديدا لقوله الحكيم \”وما ينطق عن الهوى\”، طالت المناقشة وإحتدت، الجو يتوتر، عيون مستنكرة تتسلط على الشاب، كنت من بينهم، فقال الشاب \”نصر حامد أبو زيد قال..\”، وكان هذا آخر ما نطق بهّ!
رماني زميلي بسهمٍ وأختفى عنا، سأتذكره وواقعته واسم أبو زيد حين يقع الزلزال الأكبر في حياتي، ثورة 25 يناير.

من الجري في المحل إلى الانطلاق على مسار جديد:
بعد تسعة قرون من الثراء في رؤى الإسلام، رؤية فلسفية وصوفية ولاهوتية وفقهية، توقف الاجتهاد، وساد الفقه على حساب الباقي، كيف حدث ذلك؟
بادئ الأمر حوصر تأويل القرآن، رُفع الحديث بعد جمعه إلى منزلة كلام الله ولكن بلغة رسوله، واعتبر مصدرٍ ثان، بل وأحياناً ينسخ الأول، وقضية رجم الزاني المتزوج تعتبر أحد أهم مسالب هذا الزعم، ثم وُضِع مصدر آخر لم يكن موجودا في حياة الرعيل الأول، وهو الإجماع، ويقصد به أجماع أول قرنين، وأُضيف لهم بعد ذلك أعلام الأئمة، ثم مصدر رابع هو القياس، ويقصد به أن كل حادث طارئ له شبيه في تاريخ المسلمين الأوائل، كان على فقيه ما بعد القرن التاسع الهجري أن يمر على كل ذلك قبل أن يصل إلى المصدر الأخير للفقه، الرأي، ولم يجهر به في تاريخنا فقيه إلا وأضطُهِد.

أما علماء الفلسفة، أصبحوا مهرطقين، حُرقت كتب ابن رشد لذلك، ولم ينجو المتصوفة، صاروا زنادقة، ومأساة الحلاج الشهيرة لسيت الوحيدة بينهم، علماء الكلام أيضا طالوا من التعسف نصيبا، أحدهم أُضحي به بعد صلاة العيد ذبحا، إذ وُلي خالد بن عبد الله القسري على الكوفة في عهد عاشر ملوك بني أمية، وفي أول خطبة له في عيد الأضحى قال \”أيها الناس ضحُّوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً\”، وفي كل هذا كان للسياسة وطبيعة العصر ومفاهيمه أثر على الإسلام، وتأثرت أيضا بالإسلام حتى وصلنا الدين كما وصل.
منذ أن وطأت قدما نابليون بونابرت أراضينا مزود بمنتجات مجتمعه الحديث، بزغ السؤال، لماذا تخلفنا؟
انكب رواد النهضة على التراث، ليجيبوا على هذا السؤال الحرج، وجدوه ثرياً، واجتهدوا في ضوء ما توفر لهم من المعارف، لكن بنفس مناهج القدماء، فخرجت اجتهاداتهم على أهميتها ملفقة، وسرعان ما تحولت من محاولة لتحديث الفكر الإسلامي، إلى أسلمة الحداثة، وشيئا فشيئا أصبح الغالب \”كذا الإسلامي\” بدلا من \”كذا في الإسلام\”، وهنا جاء دور نصر حامد أبو زيد ليقفز خارج هذا المسار التقليدي برمته، المعلوم نهايته سلفاً، فشق آخر بكلتا يديه وعقله الحر، متكئا على عصا موضوعيته التي لم يتخل عنها حتى وفاته بمرضٍ نادر، رغم كل الجحود الذي قوبل به.
عندما وجد نصر في شبابه، أن الإسلام كان اشتراكيا في عهد عبد الناصر، ثم صار بقدرة قادر رأسماليا في عهد السادات، بحث فوجد أن محاولة التلفيق لها حضور في تاريخ المسلمين على اتساعه، فتجرأ وسأل، هل كان يشغل المسلمون الأوائل ما يشغلنا الآن؟ كيف فهموا النص المقدس؟ ما هي طبيعة الوحي؟ هل كان الوحي متعاليا على التاريخ أم كان ظاهره يخاطب مشاكل وتساؤلات وقتية للمجتمع الذي نزل فيه مع وجود مبادئ متجاوزة لتلك اللحظة؟ هل يحق لنا أن نستخدم علم السميوطيقا والعلوم الحديثة في فهم النصوص الدينية وأولها القرآن أم الأمر مُقفل على المناهج القديمة التي هي من صنع بشر بالأساس؟

كان هذا هو ما فعله نصر، طرح التساؤل، مجرد تساؤل، وإليكم بيان ما فعلوه به جراء اجتهاده.
اللحى تتساقط في الميادين:
نزلنا الميادين بصدور عارية وضمير حي ولا مساحة لخلاف، هي سنن البشر، الخطر يوحد الفرقاء، لم يدم هذا المشهد المُبهر أكثر من ثمانية وثلاثين يوما على تنحي مبارك، فى استفتاء مارس بدأ الشقاق، الدين دخل على خط السياسي، \”نعم تجلب النعم\” رفعها كلا الفريقين، مسلمين ومسيحين على السواء، وكنا نحن أغلب معشر الشباب مع \”لا\”، وذهب كلٌ يستقي حجته من طريق مختلف، كان هذا الدافع هو ما ألقى بي في بحور نصر، وللأفكار سنن كالبشر وحياة، كلما حدث حادث جلل، يطفو التساؤل على السطح، ومعه إجابات الأقدمين.
كان اللقاء الأول مع كتاب \”نقد الخطاب الديني\” عسيرا على الفهم، لغة أكاديمية جافة تخلو من العاطفة، استعنت بمقالات شارحة، وندوات وقراءات على اليوتيوب في فكر نصر وله، ومناظرته الشهيرة مع دكتور محمد عمارة، وانقلبت الآية، تحولت من فأر لمطارد.
أدركت بعد ذلك أنه كان خطأ فادحا أن تقرأ مشروعا بهذه الضخامة من المنتصف، فقرأت الأعمال الأولى لنصر بالترتيب كما كتب، بدأت بكتابه المؤسس \”الإتجاه العقلي في التفسير\” الذي تناول فكر المعتزلة رواد العقلانية في الإسلام، ثم \”فلسفة التأويل\” عند محي الدين بن عربي، قمة تطور الفكر الصوفي في الإسلام، وعززتها بثالث، كتابه الأخطر \”مفهوم النص: داسة في علوم القرآن\”، وأعدت قراءة الكتاب الأول مجدداً، وجدتني أمام رجل يدخل في عقل قارئه ويتمدد، يوسع عظام جمجمته ومعها زاوية الرؤية.
بمناسبة خمس سنوات على رحيله الجسدي، أصدرت مجلة عالم الكتاب ملفا خاصا عن نصر، يضم ثلاثة مقالات عنه لدكتور محمد أبو الغار وأمينة ودود ومحمد الشحات، ومحاضرة ودراسة للراحل يترجمان لأول مرة للعربية \”أزمة الخطاب الديني المعاصر\” و\”القرآن والإسلام ومحمد\”.
وقت صدورها، كنت في أسوان ولا أعرف أين تُباع، أعدت نشر غلاف المجلة على الفيسبوك، ومعها تعليق ساخر يُفصح عن حاجتي لهذا العدد، تواصل معي المدير الفني والمصمم للمجلة أستاذ أحمد اللباد، وطلب عنوان بريدي ليرسلها لي، وبدأت صداقة أعتز بها، لكن لم أمهل الرجل فرصة، كنت كمن يتخبطه الشيطان من المس، بحثت عنها جيداً، حتى وجدت أخيراً فرع الهيئة العامة، موقع من المدينة يحتاج كي يُكتشف إما لجي بي إس، أو رجلٌ من أهل الخطوة.
وهنا جاء الدرس الأهم الذي يرسله لي نصر من عالمه الآخر، في دراسة \”القرآن والإسلام ومحمد\”، وجدته يخاطبني أنا تحديدا، وكأنه يشير لي بالبنان قائلا: لا تصنع من إجتهاداتي أصناما، أنا لست إلهاً.
\”هذا هو فهمي للإسلام، وهو فهم تكون وتشكل في زمن محدد، وفي ظل ظروف محددة، وبالتالي فإنه ليس فهماً مطلقاً أو من شأنه أن يستمر إلى الأبد.. وإلا فإنني، وببساطة، سأخلق دوجما أخرى\”.
دروس أخرى يرسلها المفكر لقراء لم يرهم:
\”إلى ابتهال يونس: الزميلة والصديقة والزوجة.. في الزمن الردئ يدفع (الحب) ضريبة أنه يريد أن يجمّل وجه الحياة.. يتحدثون باسم (الله) والكراهية تطفح في نفوسهم وعلى وجوههم.. وقوفك ضد (القبح) دليل دامغ على أن الرجل شريك المرأة وليس العكس.. فيك وفي إرادتك تتجلى قوة المرأة مانحة الحياة والحب والنبل.. هذا الكتاب لك ولكل بنات جنسك ولأبنائهم وبناتهم.. ألسنا نحُلم بالمستقبل؟\”
مع الكتاب الخامس \”دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة\”، اكتشفت بعدٌا آخر في نصر، بجانب العالم برز الإنسان، عند اهدائه لزوجته ورفيقة مشواره المصدر به الكتاب توقفت، وسألت نفسي وشيء من المرارة يعتمل في حلقي، لماذا كل هذه الكراهية التي أُحطت بها يا نصر؟
جامعته؛ وبيته -الذي فيه أثمر- يتنكر له، وحُرِم من ترقيته المستحقة، بل ورفع المحامي محمد صميدة عبد الصمد وستة من زملائه عليه دعوة تفريق بينه وبين حبيبته.

وفى الجمعة التي تلت اتهام عبد الصبور شاهين له بالردة، رددت كل المساجد في مصر نفس الإسطوانة، وظهرت عشرات المقالات تطالب بتفريقه عن غرامه الثاني، مهنته كمعلم، بعد حكم المحكمة بالتفريق بينه وبين زوجه وإعلانه مرتدا، طالبت جبهة علماء الأزهر الدولة بتنفيذ حد الردة عليه، ووصل الأمر لإصدار أيمن الظواهري فتوى بوجوب قتله على كل مسلم، حوصر الحبيبان بعساكر مدججين بالسلاح لحمايتهما في زمن لا يقيم للحب وزنا، أصبحت الحركة بحساب، والزيارات بإذن.
تعذر عليهما الاستمرار هكذا، فقررا الذهاب لهولندا، ليستأنف نصر نشاطه العلمي، وترك البلد مُخضرة لحراس الصوت الواحد، عُباد الأجوبة المُعلبة.
مرة أخرى يعود الحب في الظهور، اختار نصر من بين كل الجامعات التي رحبت به في العالم بأسره، جامعة \”ليدن\” بهولندا الأقرب لمصر مما عُرض عليه، كي تستطيع دكتورة ابتهال مباشرة عملها كأستاذة للأدب الفرنسي بجامعة القاهرة، \”حتى لا أحملها أكثر مما احتملت\”.. هكذا صرح لمحاورته إستر نيلسون في كتاب \”صوت من المنفى\”.
فمن تعلم حقاً من النبي رسالة \”الحب والثورة\” وعلمه، هو أم مُلاك الحقيقة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top