في رأيي أن أهم مشهد في فيلم \”لا تراجع ولا استسلام\” هو المشهد الذي يظهر فيه غسان مطر في الحلم ليعلن أنه طيب (زي كمال أبو ريّة ومحمود الجندي)، بل ربما هو المشهد الأكثر جماهيرية لغسان مطر في تاريخه الفني.
أهمية هذا المشهد بالنسبة لي كانت في قول غسان إن المخرجين حصروه في أدوار الشر، كان ذلك هو المثال الأوضح لي وقتها على مدى قُبح التنميط والمُنمِطين (المخرجين في هذا المشهد) أو بصيغة أخرى \”الابتذال\”.
بعد ذلك ومع مرور الوقت بدأت أرى هؤلاء النمطيين في كل مكان، الجامعة، التليفزيون، تصريحات الوزراء، رئيس الجمهورية نفسه \”مبارك وقتها\”.
ظلت النمطية تخنقني حتى جاء حدث إستثنائي: 25 يناير وما تلاها.
رغم كل تعب الأعصاب والتوتر وعدم اليقين، فقد كان هناك شئ يحدث خارج النمط. لم ألحظ وقتها أن ما يحدث يتحول هو نفسه إلى نمط يتم حصر الناس فيه، أو الأسوأ، هم يحصرون أنفسهم فيه.
راجع معي: بدأت الثورة كدعوة للتظاهر انتشرت على الفيس بوك وتويتر، ماذا حدث بعد ذلك؟
تم ابتذال ذلك بعدها وأصبح كل شخص يشعر بالملل وهو جالس في بيته، يفتح الفيس بوك ويدعو لمظاهرة ما.
كانت من أهم الوقائع قبل الثورة، مقتل خالد سعيد وتأسيس صفحة -للتنديد بما حدث له وبالتعذيب الذي يحدث على يد الشرطة- هي صفحة \”كلنا خالد سعيد\”.. ماذا حدث بعدها؟
تحولت المسألة إلى نمط، كل من يتعاطف مع أي شخص يأسس صفحة باسم هذا الشخص مسبوقة بكلمة \”كلنا\”، فتحولت المسألة من \”كلنا خالد سعيد\” إلى \”كلنا ريهام سعيد\”!
هكذا يتم ابتذال وتنميط كل شئ يظهر أو يحدث.
يبدأ الأمر جيدًا ومثيرًا للمشاعر، ثم يتم تكراره حتى يصبح مُمِلًا ثم مثيرا للسخط.
ستجد في الوقت الحالي مثلًا أن علم مصر وجملة \”تحيا مصر\” هما الأكثر تداولًا حتى فقدا أي تأثير، وأصبحت رؤية عمود إنارة أو سور تم تلوينه بألوان العلم هو منظر مثير للملل، وسماع كلمة \”تحيا مصر\” مثير للتثاؤب من كثرة استخدامه \”عمّال على بطال\”.
لكن ليس هذا فقط هو التنميط الذي يمكن ملاحظته.. أنت أيضًا نمطي يا عزيزي، لنفترض أنك من المعترضين على الوضع الحالي كما كنت من المعترضين على الوضع سابقًا، وعلى الوضع ما قبل السابق وما قبل قبل السابق.. هل تقوم الآن بغير إتباع نفس النمط في الاعتراض؟
عند القبض على أحدهم ماذا تفعل؟ ١- التنديد ببوست على الفيسبوك أو تويتر.
٢- عمل هشتاج -أيضا على الفيسبوك وتويتر- بعنوان \”الحرية لفلان\”
٣- تغيير صورة بروفيلك إلى صورة هذا الشخص.. كم مرة قمت بهذه الخطوات مع تغير اسم الشخص كل مرة؟ وهل البوست الخاص بك وهاشتاجك وصورة بروفايلك أتت بالحرية لأي شخص من هؤلاء؟
ماذا تفعل الآن في معارضتك للسيسي؟
١- رفض سياسته أو أي شئ يقترن به عن طريق بوست على الفيسبوك.
٢- تأليف النكات وتصميم الكوميكسات -ثقيلة الظل في أغلبها- عن أي شئ يصدر عنه من تصريح أو قرار أو خبر.
٣- التسفيه من أي وكل شئ يصدر منه وحصره دائما في أحد دورين: هو المادة الخام في الشر أو هو المادة الخام في البلاهة.
السؤال: هل أي من هذه الأشياء أضعفت شعبيته أو جعلته يتراجع عن أي شئ قام به؟ هل وصل رأيك هذا لأي شخص خارج قوقعتك الخاصة المتمثلة فيك وفي أصدقائك على الفيس بوك؟ هل أي من الأفعال سابقة الذكر حركت جناح بعوضة في الإتجاه الذي تريده؟
إن كانت الإجابة على الفقرتين السابقتين هي \”لا\” صريحة وواضحة، فلتعلم أنك حصرت نفسك في نمط واحد من المعارضة، كما حصر المخرجون غسان مطر في أدوار الشر، وأن قيامك بنفس الخطوات مع كل حدث جديد منتظرًا نتيجة مختلفة لا يعني بالتأكيد أنك \”بتعمل الصح\”.
لذلك، وقبل إتهام الآخرين الذين تعارضهم بفقر الخيال -وهم فقراء جدًا في الخيال لو أردت رأيي- فعليك أولا أن تدرك أنك لا تقل عنهم فقرًا في الخيال، وأنك تقل عنهم كثيرا جدًا في القدرة والرغبة على الفعل.
على الهامش:
لو أتيح لي اختيار جائزة أفضل ابتذال منذ قيام الثورة، فسأعطيها لمجموعتين قامتا بابتذال الهتاف الأشهر \”الشعب يريد إسقاط النظام\”:
المجموعة الأولى: جماهير الزمالك بعد تولي حسام حسن تدريب الفريق، حيث كانوا يهتفون: \”الشعب يريد، الدوري يا عميد\”.
المجموعة الثانية: أبناء حراس العقارات في منطقتنا، حيث تجمعوا بعد أيام قليلة من عزل مبارك وهتفوا: \”الشعب يريد، بخمسة جنيه رصيد\”.