مصطفى طاهر يكتب: "مصطفى سويف".. أبانا الذي علمنا التجرد

 

حكاية كتاب مؤسس للثقافة العربية يسبق عصره بقرن.

لماذا أختار \”سويف\” الشعر ميدانا لأغلب دراساته في علم النفس؟
مفاتيح مشروع سويف في \”الأسس النفسية للإبداع الفني\”.

منجز مصطفى سويف يبدو من السذاجة وصفه بنجاح شخص عظيم ودؤوب، فهو لم يكن شخصا عاديا. كان مشروعا متكاملا للثقافة العربية ودليلا للمبدع على القدرة على التأثير، والعمل بشكل منظم.. عن التفكير العلمي بالفطرة، الذي جعله لم يختر الشعر ميدانا لبحثه، رغم كل عشقه للشعر والقصة، إلا لأنه الفرع الفني الذي تميزت به الثقافة العربية، وكانت تملك فيه تاريخا عريقا يؤهله لأن يكون ميدانا لدراساته في علم النفس كما يعترف هو بنفسه في تمهيد أول كتاب له.

هكذا كان العالم الجليل \”مصطفى سويف\”، يبدو في قمة إتساقه مع ذاته حين يقول: \”كنت فى الماضى، أكتب الشعر والقصة، وفى لحظة قررت أن تكون دراستى العليا فى علم النفس وواجهتنى أزمة، وهى أني ظللت مشغولا ومتيما بالشعر والقصة.. لن أنجح فى دراساتى العليا، لابد من قرار: قلت لنفسي وماذا اختار؟ اخترت دراساتى الأكاديمية، فعلم النفس يوافق حياتى المزاجية\”

بهذا المنهج صنع كتبه وإنجازه البحثي الضخم، ففي المكتبة العربية تندر الكتب المؤسسة التي تصنع الفارق.. المؤسسة للإنسان والمؤسسة لكيفية تعامله مع الفن والإبداع، سواء كان صانعا للفن أو متلقيا له.. الكتب التي تستطيع أن تغير مفاهيمك وتهدم ثوابتك وأنت تنصهر بين صفحاتها.

وندرة ذلك في المكتبة العربية لا يرجع لضعف الثقافة العربية، ولكن لندرة وجود الكاتب الذي يتعامل مع الفن بكل هذا القدر من المهنية وإتباع المنهج العلمي، مع النظام المحكم والعمل على مشروع يحمل هدفا واضحا.

مد جسور المنهج العلمي في صناعة الفنون، وهو الهدف والمنهج الذي عمل عليه الراحل الكبير د. مصطفى سويف بكل إخلاص في مشروعه الإستثنائي الذي تجاوزت رحلته السبعين عاما من العمل الشاق والمنظم والمخلص، ولم يضيع الله الرحلة هباء، فقدم سويف للفكر العربي وللفن في مصر خدمات جليلة لن تنسى، ليس أولها نجاحه في تأسيس أكاديمية الفنون المصرية منذ أكثر من نصف قرن، والتي تحولت بعد كل هذه السنوات إلى الجامعة القبلة الأهم والأبرز لكل دراسي ومتخصصي الفنون في العالم العربي، وأصبحت جواز مرور حقيقي إلى عالم الإبداع، ولم يكن آخرها موضوع الكتاب الإستثنائي الذي أنجزه عالم النفس الكبير عام 1951م قبل 65 عاما، ولكن رغم كل هذا العمر، مازال الكتاب قادرا على إحداث التأثير الجذري في كل من يسافر بين صفحاته، في دليل واضح على أن سويف بإتباعه للمنهج العلمي إضافة إلى تسلحه بسلاح التجرد وإحكام العقل؟ سبق زمنه بكثير.. ففي كتاب \”الأسس النفسية للإبداع الفني\” الذي أنجزه سويف في محطة فاصلة للثقافة العربية منتصف القرن الماضي، بوصلة لا تخطئ وإحساس لا يخيب في كيفية وضع منهج مؤسس لسبيل الفنان في التعامل مع عملية الإبداع الفني بطريقة علمية متجردة، تخدم صانعي الفنون وتفتح لهم الطريق لربط فنونهم بكافة تنوعات الحياة من حولهم.

في كتاب سويف إجابات لأسئلة فاصلة لأي مبدع عن أهمية الفن وحقيقة دوره، وكيفية إستخدام الفن في إحداث تغيير حقيقي في المجتمعات.. الكتاب المؤسس في علم النفس وعلاقته بالإبداع الذي يأتي في ثمانية فصول، تأتي الثلاثة الأولى منها تحت عنوان سحري \”في الفن والحياة والعلم\”، ما سيبهر القاريء أنه منذ السطور الأولى سيكتشف أن سويف يحدثنا عن محنة حقيقية تجتازها الحضارة وقت صدور دراسته قبل أكثر من نصف قرن، وهي نفس المحنة التي ربما مازالت الحضارة والإنسانية تقف أمامها عاجزة حتى الآن.. صراع القديم والجديد وقدرتهما على العمل معا لإحداث التكامل الاجتماعي الذي كان الهاجس الدائم للعالم الجليل، الذي لم يكن مجرد كاتب أو أستاذ جامعي أسس لقسم علم النفس بجامعة القاهرة كما أسس لأكاديمية الفنون، فمنجز مصطفى سويف يبدو من السذاجة وصفه بنجاح شخص عظيم ودؤوب، فهو لم يكن شخصا عاديا.. كان مشروعا متكاملا للثقافة العربية ودليلا للمبدع.. مشروع ناجح للغاية، أتى ثماره كاملة على أفضل ما يكون.

شكرا أيها الراحل الكبير على كل هذا الإخلاص.

محطات في كلمات مصطفى سويف:

– ما أكثر التعليقات التي يكتمها المؤلف، ربما خوفا عليها أو خوفا منها. ​
– ليس هناك عمل فني إلا وله ماض في نفس صاحبه. ​
– يبدأ الإبداع العبقري في المجتمع وينتهي في المجتمع. ​
– كل نشاط نبدأه يحمل نهايته في طياته. ​
– كل عبقري إنما تقوم عبقريته على إحداث تغيير في جانب من جوانب الحياة في المجتمع. ​
– كلما زادت العقبات والسدود التي يقيمها المجتمع في وجه محاولات التغيير التي يقوم بها البعض، تضاءلت فرص العبقرية أمام أفراده.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top