زغاريد تزلزل الأجواء. طلقات نارية تمزق أحشاء السكون وترعب الطيور الغافية، أصوات مختلطة تعبر عن فرح مشترك، دقات طبول ومزامير تؤكد جميع ما سبق، ضوضاء تعلن عن حدث ما، هناك مجموعة من البشر يحتفون به ويشعرون بزهو غير عادي. سبقت هذه الضوضاء صرخات وآلام وآهات ودماء، دماء مخاض سيليها إراقة دماء أخرى، لحيوان بريء لا علاقة له بالحدث.
انتهت الآلام عندما ظهر الوليد الذي خرج لتوه من بحر الظلمات لكنه لم يشارك المحيطين فرحتهم، وأعرب عن استيائه من الموقف، صرخ وانتحب حتى انتفخت أوداجه الصغيرة، ربما رهبة من العالم الجديد الذي وجد نفسه فيه، بشر يتلقفونه ويتداولونه فيما بينهم. ضوء ساطع يرهق عينيه اللتين لم تريا غير الظلام. موقف مربك جدا.
مولود جديد. حبذا لو كان ذكرًا. سيتضاعف كل ما سبق من زهو واحتفال، لأن للذكر مثل حظ الأنثيين، أهل الوليد وكأنهم قد حققوا نصرا مؤزرًا، بعد أن تنتهي مراسم الاحتفال، يبدأ الجد. توثيق الحدث، تسجيل شهادة الميلاد أمر حتمي، لابد من إصدار أوراق رسمية، تحمل أختاما وتوقيعات.
شهادة الميلاد: اسم المولود، اسم أب وأم، تاريخ، جنس المولود، محل الميلاد. كل ما تعبر عنه هذه الوثيقة عبارة عن مجموعة من الصدف لم يختر منها المولود شيئا، ربما هذا ما يسمى قدرًا. ولا مفر من التسليم بالقدر.
أعوام تتسارع، لينمو الولد فيجد نفسه مضطرا إلى توثيق جديد، الحكومة تتربص به وتتوقع منه أن يستخرج بطاقة هوية/ رقم قومي. هناك معلومات إضافية لابد من توثيقها، طبقا لما ورد في شهادة الميلاد، سيبقى الحال على ما هو عليه فيما يخص الاسم وتاريخ الميلاد، والديانة.
تطالبه الحكومة بتوثيق حالته الاجتماعية التي غالبا ما يقررها أهل هذا الشاب وحالته المادية، اختياراته بها محدودة ولكن في نهاية الأمر لابد أن يوثقها. سيوثق أيضا عمله ومؤهله الذي فرض عليه في أغلب الأحوال من مكتب التنسيق والظروف الاقتصادية التي تجبر هذا الشاب ومثله ملايين أن يعملوا فيما لا يحبون ولا يفقهون ولا يتقنون، أو سيكتب في بطاقة هويتهم \”بدون عمل\” حتى إشعار آخر. لا حيلة لهذا الشاب، سينفذ رغبة الحكومة ويستخرج بطاقة للهوية/ الرقم القومي.
يلح عليّ سؤال ممض، هل ما كتب من حروف وأرقام في تلك البطاقة هو حقا هوية هذا الشاب. أم أنها فقط بطاقة للرقم القومي؟ هل تعبر عن إنسان له إرادة حرة يستطيع أن يقرر مصيره ويبدل معطياته؟ أم تعبر عن رقم. مجرد رقم؟
سؤال موجه لك أنت أيضا صديقي القارئ. هل راجعت بيانات بطاقة هويتك؟ هل تأكدت أنها صحيحة؟ أم أنها مجرد خدعة؟ إطار محدد يجب أن تلتزم به؟ يجب أن تذعن لكل البيانات المدونة في بطاقة الرقم القومي وإلا وضعت نفسك تحت طائلة القانون والمؤسسات الحكومية والدينية والاجتماعية.
هل فكرت للحظة أنك لم تختر أي من المعلومات المدونة بتلك البطاقة؟ كيف يمكن أن تزعم إذا أن تلك بطاقة تمثل هويتك؟ هل هذه الصورة الشبحية الإطلالة تشبهك؟ هل يروقك الاسم الذي اشتهرت به؟ هل تنتمي إلى العائلة التي تنتسب إليها؟
هل فكرت أبدًا أن تنفض عنك غبار المفروض والمعتقد والمسلم به طوعا أو كرها؟
هل تدرك أنك لم تختر هويتك. إسمك. معتقداتك. جيناتك. ديانتك. جنسيتك.
السؤال الأهم. هل من حقك أن تتعصب لما فرض عليك وأنت لم تسع إليه ولم تختره؟
على سبيل المثال هل يحق لك أن تفتخر بأنك مصري الجنسية؟
بمنتهى الغرور ستجاوب بنعم أعرف جيدًا تلك الـ \”نعم\” مفتوحة العين. مقعرة النون. ساكنة الميم.
عذرًا صديقي. تلك الـ \”نعم\” جوفاء تماما لهذا خرجت عالية النغمة. لماذا أعطيت نفسك هذا الحق وأنت لم تختر أن تكون مصريا. فكر للحظة قبل أن تجيب. هل تشبه السكان الأصليين لمصر في شئ؟ ماذا تحمل من صفاتهم؟ هل يحق لك أن تزهو بتاريخهم وحضارتهم؟ هل تعرف حقا مدى عمق وتفوق تلك الحضارة؟ هل ما درسته في كتب الوزارة يمثل هذا التاريخ فعلا؟ عفوًا أسئلتي كثيرة ومن خارج المنهج، لم تذكر في ملزمة المراجعة النهائية. لكن عذرًا أيضًا. ماذا أضفت أنت لهذا التاريخ؟ بلاش. هل تدّعي أنك تحافظ عليه؟ والآن أعيد عليك السؤال مجددًا. هل أنت حقا مصري؟ بل هل أنت جدير بأن تكون مصريا؟ أرجوك فكر مليًا قبل الإجابة.
بنفس المنطق. هل يحق مثلا لسيدة جميلة أن تتباهى بجمالها. أتعجب لذلك وهي لم تبذل أدنى مجهود في الأمر ولم تختر هذه الملامح التي تظن بها نفسها متميزة.
هل يحق للمسلم أن يفخر ويتعصب لإسلامه؟ أليس مسلما بالصدفة. طبقا لخانة الديانة في بطاقة الرقم القومي. ولا أقول بطاقة الهوية.
لقد خُدعت يا صديقي كل ما تظن أنه هويتك قد فرض عليك فرضا، بدءا من جيناتك التي حملتها رغما عنك وأنت مازلت نطفة في رحم أمك، إلى اسمك الذي يشارك في اختياره كل من يتبرع باقتراح اسم على والديك من أهل وأقارب وأصدقاء وكل من هب ودب ما عداك. إلى ديانتك التي ورثتها بالصدفة. إلى جنسيتك ومحل ميلادك. والعجب كل العجب أن هناك من يتفشخر ويتشدق باسمه وشكله وجنسه وديناته ومحل ميلاده ونسبه.
ماذا اخترت أنت من كل هذا حتى تفخر لأنك تحمله أو تتعصب له؟ هل تفكرت بدقة فيما تمثله هذه البيانات ووجدت أنها فعلا تمثلك، وأنك تنتمي لها؟
أتفهم جدا من ينتمي لناد يشجعه، ذلك أنه محض اختيار، وإن كان الاختيار هنا نسبي، لكن هناك اختيارا على مستوى ما.
أتعجب أننا جميعا نتخلى عن إرداتنا الحرة في دروب الحياة، نتخلى عن المنحة الإلهية التي منحها الخالق للبشر. ونطيع بطاقة الرقم القومي.
المثير للسخرية، أو قل المثير للشفقة أننا نفتخر بكل ما لم نختره أو حتى نراجعه. قد يصل بك الأمر يا صديقي أن تخوض حربا أو تقتل نفسا للدفاع عن أحد تلك المسلمات. ظنا منك أنك تدافع عن هويتك!