هبت علينا مثل زوبعة من الغيوم عندما فتحت الباب كالعاصفة المتشحة بالسواد ثم صفعته خلفها وكأنه رجل خائن قليل الأصل! ارتجفت في خوف وأنا أراقب يدها تمتد داخل حقيبتها! بدأت في البكاء الصامت وأنا أنظر إلى مسطرتها الخشبية البنية الطويلة! زأرت اللبؤة آمرة إيانا بالوقوف في أماكننا وفتح أيدينا!
كان أحمد سمير يجلس في الصف الأول في المقعد الأول، وكان أول من ارتطمت المسطرة الخشبية بكف يده اليمنى مرتين، ثم نزلت على كف يده اليسرى مرتين! صرخ! بكى! ثم انهار جالسا يئن في صمت كما اليتيم اللطيم! لم أنظر مرة أخرى نحو الصف الأول! وقفت في مكاني أتمنى الموت مثل كل مرة ومثل كل مرة جاء دوري ولم أمت!
لم أعتد أبدا صوت ارتطام الخشب بالكف الصغير! حملت خلايا جسدي ذكريات القهر والظلم والعنف ورسخت في ذاكرتي سنوات إهدار الكرامة في هذا الملجأ التعليمي الكبير!
لم أنس أبدا رد أبي في كل مرة شكوت فيها: \”خليهم يربوكم\”!
أتذكر أول إضراب لي! كنت في العام الثالث الابتدائي وكان عمري وقتها ثمان سنوات، وكانت أول سنة دراسية نأخذ فيها مواد اجتماعية وجدول الضرب ونحو وعلوم، بالإضافة إلى اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية. كنت دائما أجلس في أبعد مكان عن المُدرسة، وأبعد مكان عن الباب، وأقرب مكان للشباك، وكنت دائما أحلم بحياة غير حياتي وأشخاص غير الأشخاص، ولم أتوقف عن أحلام اليقظة تلك، سوى في الجامعة. أضربت عن الكلام! اخترت الصمت! أستيقظ! أرتدي ملابسي! أذهب إلى مدرستي! أعود إلى منزلي! أكتب واجباتي! أنام! أجلس في صمت! آكل في صمت! أبكي في صمت! أنا حقا غبية! أنا لا أعرف الفرق بين اليمين واليسار والشرق والغرب! أنا حقا غبية! لا أستطيع أن أقرأ! أرى الحروف، ولكن لا أعرف كيف أغزلها في كلمات مفهومة! أنا حقا غبية! أرى جدول الضرب، ولكنه لا يمثل أي شيء بالنسبة لي!
لقد أرهقني الحفظ والصم والشعور الدائم بالغباء! \”شكلك بقى غبي!\” هكذا كانت تقول أمي!
\”إيه يا اختي المحروس اللي انت شايلاه قدامك ده؟\”.. هكذا سخرت داليا من كرشي في الصف الخامس الإبتدائي!
\”تنّفخ وصل\”.. هكذا صاح شادي عندما رآني على السلم المؤدي إلى الفصل في الصف السادس الإبتدائي!
\”بقرة راكبة عجلة\”.. هكذا سخر مني محمد زميل الدراسة عندما تقابلنا صدفة في النادي في الصف السادس الإبتدائي!
\”هسقطكم! هسقطكم كلكم! وهتجولي في الملحق وهسقطكم كلكم تاني! مش هتنجحوا أبدا!\”.. هكذا توعدت ميسيز سامية في سنوات الإعدادي!
في درج المكتب كان أبي يحتفظ بمسطرة خشبية بنية طويلة، وفي حجرتي جلست طويلا أفكر في الهروب أو الموت أو كليهما! في عيد ميلادي وفي كل أعياد الميلاد، كان الجميع يغني بكل فخر وبكل حب: \”أجمل من في الحفلة مين؟ دبدوبة التخينة!\” إلى آخر الأغنية السمجة!
لقد وعدت ابني وهو جنين يختبئ في رحمي، بالحب غير المشروط والاحترام والحماية.. أجدد وعدي كل يوم.. أنجح أياما وأتعثر أحيانا، ولكنني متأكدة أن الثورة مستمرة وك*م التربية!