أعتقد أنني غير قادرة على مشاركة ما بداخلى مع إنسان مازال على قيد الحياة قادرا على التنفس، لذا ألجأ إليك وأتعامل مع فكرة موتك وكأنها سراب ليست حقيقة.
أصبحت أشعر بأننى مصدر للحزن لكل من يحيط بى ويقترب منى، أما أنت يا جدى فلن تتأثر بهذا الحزن المُبثوث إليهم، فهل هناك أكثر من الموت حزنا.
منذ وفاتك يا جدى لم ادخل منزلك ولو لمرة واحدة وأصبحت اتجنب حتى المرور لأى طريق قد يؤدى إليه. وعند رؤية صورتك بشكل مفاجىء عند أقاربى الذين اعتادوا على رحيلك -سواى- تُذرف دموع عينى دون إذنى، فتُجبرنى على الانصراف سريعا حتى لا يرانى أحد ويظن أنني قد جننت لبكائى دون سبب واضح لهم، وهذا رغم عدم بكائى عليك يا جدى يوم مماتك، ذلك اليوم الذى أتذكره جيدا حينما أيقظتنى أختى فى أحد صباحات شهر رمضان الكريم لتُخبرنى بنبأ وفاتك، الذى استقبلته بنظرات حائرة لها، ثم استغرقت فى النوم مرة ثانية حتى إننى لم أذهب لرؤيتك للمرة الأخيرة أو حضور مراسم دفنك! واستيقظت وكأن شيئًا لم يحدث، وبدأت فى تحضير الإفطار لأبى واخوتى الذين قد ذهبوا لوداعك إلى مثواك الأخير فى الفيوم.
وعندما عاد أبى، هونت عليه وكأننى أريد الهرب من تصديق فكرة عدم انتماءك لنفس عالمنا وعدم استطاعتى لرؤيتك مرة أخرى، فهذه حقيقة تفوق قدرة قلبى الذى تعلم هشاشته جيدا يا جدي! وعقلي الذي يرفض تصديق أنك خذلتني بالفعل ورحلت.
أتذكر شدة بكائى بجوارك عندما سمعتك تتألم لأول مرة فى إحدى نوبات مرضك الشديدة، حتى أصبح صوت بكائى يفوق أنينك! وظللت أبكى حتى وصلت للمنزل، فلم انس خُطى أبى المُترددة الخائفة من سؤالى عن انهيارى، وكأنه خائف من ذلك الخبر الحزين.
إننى افتقدك لدرجة تجعلنى أرى ملامحك فى وجوه كل كبار السِن، وأبكى كل مرة على عدم بكائى وحُزنى عليك وقتما رحلت، فأنا احزن وابكي عليك كل يوم الآن.
اشتقت إليك ولرائحة جبينك ويدك التى لم أُقبل غيرها طوال حياتى، حتى يد أبى.
يعتقد البعض أن الموت راحة، وليس دائما بمكروه، وهذا عكس ما أراه فيه من كونه يميت روح الأحياء، فمع فقدان كل عزيز ينطفىء مصباح فى القلب وينطفىء آخر وآخر حينما نتذكرهم ونشتاق إليهم، وبالأخص عندما نمر بشىء اعتدنا فعله معهم.
وفى النهاية يتصالح الجميع مع فكرة الموت ووجوب استمرارية الحياة بعد فقدانهم -سواى- أعتقد إننى عكس ذلك التصالح وأرى وجوب توقف الحياة عند لحظة فقدان شخص ما قد شاركنا مناسبات وذكريات، وبالتحديد حينما تأتى إحدى المناسبات السعيدة واجتمع بأُناس أقرب للفقيد منى، وأظل أنظر إليهم ولابتسامتهم وسعادتهم بمنتهى الاستغراب وكأنى من عالم آخر، يتملكنى حينها شعور غريب يحدثنى عن كيفية السعادة لديهم دون ذلك الشخص الراحل الذى كان يوما ما مصدرا لسعادتهم أو مصدرا لإثارة أى مشاعر إيجابية داخلهم!
فيُلاحقنى سؤال: إذن لماذا لم اكن مثلهم؟ لماذا تُذكّرنى هذه المناسبات بمن رحلوا! ورغم ذلك أصبح هذا الشعور لا يضايقنى مطلقا، فأنا أريد أن اتذكرك واتذكرهم دائما يا جدى ما حييت.
افكر كثيرًا، فهل من أحد يهتم لأمرى حينما أبكي وأحزن يا جدى؟ هل من مهتم في هذه اللحظة بالتحديد؟ وهل أصبح البكاء يُجدى من الأساس؟! ولو! ماذا أفعل إذا كنت لا أملك غيره للتفريغ عما بداخلى من حزن؟! هل من قلب يستمع إليّ ولشكواى غيرك يا جدى!
رحلت ولم يبق سوى الأشرار، فعينى لم تر أطيب من ملامحك يوما، فالتشابه بيننا كبير فى الحب والحزن فى صمت، وحتى رحيلى يا جدى سيكون صامتا كرحيلك.
عادة فى الحزن يصعب علينا اكتشاف مسبباته، إنما نكتشف كل من خذلنا بغيابه عنا فى لحظة الحزن، التى تتصاعد فيها براكين الأفكار لتطرح أسئلة عن كم الخيبات المُلحقة بنا، وكم الخذلان القادم من الأحباء.