مروة أحمد تكتب: من القلب.. سلام لـ يناير (1)

من الصعب جدا أن تصف ما تشعر به تجاه يناير، خاصة لمن هم ليسوا من أهلها، ربما تكون موسيقى أغنية \”يا بلادى\” كموسيقى تصويرية للحدث تتكرر بداخلي -كلما تذكرت يناير- بداية تساعدنى ولو قليلا على وصف دفء وعذوبة وشجن تلك الأيام، حين تحولت إلى تلك الشابة المفعمة بالأمل فيما كان مستحيلا من قبل، لدرجة أنى لم أجرؤ حتى على مجرد التفكير فيه.
ولدت لأجد الشمس تشرق من الشرق وتغرب من الغرب ومصر بلد متخلف ولا حيلة لي فى هذا!

وازداد الطين بلة بحكم رجل تافه فاسد انحدر بكل ما فيها ليفقدها كل مكانة تمتعت بها يوما حتى بين جيرانها البؤساء، وكان أقصى طموحاتى ألا يرثنا إبنه، وكنت مؤمنة أن الشعب سيمنع تلك الكارثة يوما ما (بخروج عشرات الآلاف فى مظاهرات ولن أكون منهم بالطبع!)
إلى أن رزقنا الله \”يناير\”، فوجدتنى أحلق بأحلامى، موقنة تماما بأننا قادرون على أن نحول هذا البلد إلى بلد جديد تماما. بلد ديموقراطى متقدم، حتى إنى كنت أغضب بعد الثورة ممن يضربون المثل بالنموذج الماليزى والتركى، فقد كنت أطمح للنموذج الأمريكى والأوروبي
لأول ولآخر مرة ربما فى تلك الأيام أدرك كيف يمكن لقوة الحلم أن تجعلك شابا بحق. تجدد روحك وتطهرك وتمنحك الشجاعة على أن تخاطر حتى بحياتك نفسها.

أتذكر يوم الثامن والعشرين من يناير حين مرت المسيرة أسفل منزلنا عقب الصلاة وشاركناها الهتاف، إلى أن هتفوا: إنزل إنزل.

وجدتنى أجرى إلى غرفتى استعدادا للنزول، بينما يرتعد جسدى لعلمى بما سألاقيه، إن تظاهرت، ولكن قوة أكبر منى كانت تدفعنى.. قوة حلمى النبيل الذى لا أعلم من أين أتيت بكل هذا اليقين فيه، ورغبتى فى نيل شرف كونى واحدة ممن أزاحوا الدنس الذى ألم بمصر بسبب معارضة الأسرة الشديدة (لأن النهاردة يا حسنى مبارك يقعد، يا الشعب يتعور على حد تعبير والدى)، وإصرار والدتى على أن تلحق بى إن خرجت.

لم أشرف بالمشاركة فى هذا اليوم الفارق، ولكنى كلما عدت بالذاكرة لتلك اللحظات، وكيف تحولت فجأة دون أى سابق إنذار لفتاة على استعداد للاستشهاد، أيقنت من أن هذا الشئ النبيل كان عملا ربانيا خالصا.

عشرات الذكريات من المشاعر النبيلة الفريدة الحلوة.. أسترجع الآن مشاعر مختلطة من الفرح والرضا والدهشة من نفسي، وأنا أخرج لمسيرات وحدى دون علم الأسرة (قبل أن ينضموا إليّ فيما بعد)
أتذكر ذاك الشاب الأسمر النحيل البسيط شديد الحماس، الذى كنت أجده يوميا وحتى فى التظاهرات التى تلت الثورة والذى سقط مغشيا عليه ذات مرة وشخصته إحدى طبيبات الميدان بالأنيميا وطالبته بالاعتناء بالتغذية، واتذكر حين أومأ برأسه مدعيا الاستجابة، بينما تقول عيناه منين؟!

كم احتقرت الإعلام الذى اتهم المتظاهرين بتلقي رشاوى من كنتاكى، احتقرت حتى نفسي، فالحقيقة المرة أنى لو قابلته قبل يناير بأى مناسبة لقيمته بناء على المظهر وخفت من التعامل معه، بينما هو فى الحقيقة غاية فى التحضر والنبل.

نعم، كنت جزءا من هذا المجتمع القاسي الدنئ الذى همشه وملايين آخرين.

أتذكر صلاتنا فى شارع بورسعيد حين اصطف مئات الآلاف وربما الملايين فى مسيرة وصفت بأنها الأضخم منذ إندلاع الثورة، وكانت أروع صلاة أديتها فى حياتى، ليس فقط لأن اصطفاف مئات الآلاف للصلاة كان مشهدا مهيبا بحق،
وليس فقط لأننا كنا وسط ملحمة حقيقية جعلتنى أستشعر كل آية، اقشعر بدنى خاصة مع آيتي \”إياك نعبد وإياك نستعين\” و\”إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا\”

لن أنسي أبدا كيف كنت مجهدة فى هذا اليوم وشعرت أنى على وشك التعرض للإغماء، فدعوت الله وأنا ساجدة أن يمنحنى القوة لإكمال المسيرة وانتهت الصلاة وشعرت بالقوة تسرى بشكل غريب فى عروقي فجأة.

نظرت للسماء ودمعت عيناى لتلك الاستجابة السريعة.

قبل أن أنضم للميدان سمعت بمدى تنظيمه وتحضره، ولكنى توقعت ولو قليلا من التدافع بفعل الزحام، ولكن العجيب أن حتى التدافع لم يحدث، مئات الآلاف من البشر دون تدافع أو سباب أو إلقاء ورقة على الأرض.

صرنا أفضل حتى من الدول المتقدمة التى حلمت أن نصير مثلها.
قد يخبركم هذا الجزء اليسير من الذكريات بكم الألم الذى يعتصرنى حاليا والميدان يشوه ويهان، وبلادى التى حلمت أن تنطلق، تشهد ردة حضارية غير مسبوقة، أشعر أنى عجوز -بحق- مقارنة بتلك الشابة الشجاعة الحالمة منذ ست سنوات.. أشعر باحتقار لقيم المجتمع الذى أعيش فيه وبخيبة أمل وقد صار الموت يحاصرنا بعد ثورة قمنا بها من أجل الحياة.

لمن يتساءل: لِمَ تحتفلون بـ يناير رغم ما تواجهونه؟!

بلى، لم يتحقق معظم ما حلمنا به، وتضررت على المستوى الشخصي أكثر من غيرى من الثورة، ولكنى ممتنة من كل قلبي للميدان وأهله، لـ يناير وإخوتى فيها، فقد أرشدتنى للإنسانة النبيلة بداخلى.

لم أعد جزءا من المجتمع الفاشى العنصرى الذى همش الفتى الأسمر النحيل، وأصبحت من الثائرين عليه، أصبحت ممن يضحون من أجل هدف نبيل، تعرفت على أسرة كبيرة من الشباب النبيل شركاء الحلم المستحيل والقهرة اليومية والضحك الأشبه بالبكاء.

حتى بعد أن تحقق تخوف عايدة الأيوبي حين شدت \”ساعات بخاف تبقى ذكرى\” وصار الميدان ذكرى بالفعل، ولكن بعض الذكريات بالعمر كله، وقد كنا محظوظين أن نشهد الثمانية عشر يوما فى العام 2011.

أشعر بالفخر كوني واحدة من شرفاء هذا البلد على مدى عصوره، فكما شارك جدى فى مظاهرات 36 ضد الإحتلال، شاركت أنا فى ثورة
2011.

نعم، انا من السلسال الشريف لهذا البلد، حتى وإن لم يحظ جيلي بالتقدير الذى حظي به جيل جدي.
سلاما.. للورد اللى فتح فى جناين مصر والذين أحببناهم وتعلقنا بهم، رغم أننا لم نر منهم سوى صور فى لوحة شرف، خالص أسفنا لأبنائكم ونشوف وشكم بخير فى عالم أفضل بلا ظلم أو قتل أو تزييف.

سلاما للفتى الأسمر النحيل رفيق الميدان المجهول.

سلاما لـ يناير التى ستظل محفورة بالقلوب ترشدنا وتهدينا إلى الحق والخير واحترام النفس والتمسك بالمبدأ مهما كلفنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top