مروة أحمد تكتب: عفوا.. الدول القمعية لا تتقدم (٣).. تأملات في الصين

الصين حالة متفردة بالفعل لدولة قمعية، ورغم ذلك نجحت فى أن تصبح ثانى أكبر اقتصاد على مستوى العالم، ولهذا تحظى بشعبية عالية لدى عشاق القمع، لأنها تثبت أن الديموقراطية ليست ضرورة لتقدم الأمم، وبالتالى يمكننا التقدم بدون دستور أو إنتخابات منضبطة أو إعلام حر وكل تلك الشكليات.

وتقتضى الموضوعية القول بأن الصين بالفعل إستثناء، لأنها دولة حققت نهضتها الاقتصادية بناء على الصناعة وليست اقتصادا ريعيا، كما أن الطبقة المتوسطة بها تشهد نموا ملحوظا حتى إن نسبتها تخطت نسبة مثيلتها بالولايات المتحدة، وهو إنجاز ضخم بالطبع.

بداية، بدأ الإصلاح الاقتصادي بالصين عام 78 حين بدأ التحرر التدريجى من السيطرة التامة للدولة على الاقتصاد، وإتاحة الفرصة للاستثمار الأجنبي، والسماح بالملكية الفردية للمزارعين، وبدأت موجة جديدة من الإصلاح عام 92 بالسماح بالمزيد من الاستثمارات الأجنبية والمزيد من الإصلاحات المصرفية، وهو ما حقق تلك الطفرة الاقتصادية الهائلة، إلا أنها ليست دولة متقدمة، لأن تلك ليست الصورة الكاملة للصين! وهذا ليس مجرد رأى، بل هو تصنيف البنك الدولى، الذى لا يزال يعتبر الصين دولة نامية، فرغم أن متوسط دخل الفرد بالصين جيد نسبيا، إلا أنه لا يرتقي لما يجنيه الفرد بالدول المتقدمة، كذلك فإن إنتاجيتها العالية لا تتناسب مع تعداد السكان البالغ 1.3 مليار مواطن، والأهم هو غياب المساواة، حيث يعيش 250 مليون صينى بأقل من دولارين فى اليوم، وهو التعريف الدولى للفقر، كما يعيش أكثر من 130 مليون آخرين فى فقر مدقع، وشأنها شأن أى دولة دكتاتورية تعانى من تفشي الفساد، بل صنفتها منظمة الشفافية الدولية كأحد أكثر دول العالم فسادا، وهو ما ينعكس على حياة المواطنين اليومية، بما فى ذلك أبناء الطبقات المتوسطة.

ولنبدأ بالقطاع الصحى، إذ يعالج 1.3 مليار صينى بـ 22 ألف مستشفى فقط، ويعانى المواطن الصينى من إرتفاع تكلفة العلاج، حيث تغطى الدولة 40% فقط من كلفة العلاج، وتوفر المستشفيات ميزانيتها مما تتقاضاه من المرضى، ومن الوصفات الطبية \”الروشيتات\”، ومع تدنى أجور الأطباء، تلجأ المستشفيات فى كثير من الأحيان للتحايل بوصف أدوية غالية الثمن أو غير ضرورية، كما تدفع شركات الأدوية فى بعض الأحيان رشاوى للأطباء فى صورة مؤتمرات طبية وهمية، كما حدث مع شركة جلاسكو الإنجليزية التى تدور شبهات حول دفعها رشاوى بـ 3 مليار دولار للأطباء، وهو ما دفع الحكومة الصينية لتحديد نسبة 50% كحد أقصى لإعتماد المستشفيات على الروشيتات، كما تعانى المستشفيات من تكدس المرضى، وهو ما يؤثر على آداء الأطباء ويرفع من إحتمالات العدوى.

هذا فى الحضر، أما فى الريف، فتصل الأزمة لحد المأساة، لأن معظم المستشفيات المجهزة تقع فى الحضر، فيعانى المزارعون من نقص حاد فى الرعاية الصحية، وعجز عن دفع نفقات العلاج بسبب تدنى الدخل، والقصص المأساوية كثيرة، كالفلاحين الذين يحاولون عبثا علاج السرطان بالأعشاب، أو الفلاح الذى طردته المستشفى فتدهورت حالته الصحية حتى تعفنت ساقه، فاقتلعها بالمنشار بنفسه!

قد تبدو الصورة مزعجة لممتدحى التجربة الصينية، التى بدأت بالريف ثم الحضر، ولكنها الحقيقة!

ومن المتوقع أن يرتفع الإنفاق على الرعاية الصحية لتريليون دولار، بسبب ارتفاع الدخل وارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان (حيث بلغت نسبة المصابين بالسرطان فى الصين 22% من إجمالى المصابين بالعالم كله)، وأمراض القلب بفعل التلوث، ولهذا أعلنت الحكومة عن خطة لإصلاح القطاع الصحى عن طريق المزيد من الاستثمارات الأجنبية وبناء المزيد من المستشفيات بالريف.

أما عن التعليم، فيجسد أبشع معانى التمييز ضد الفقراء والريفيين، حيث يعانى الريفيون أيضا من نقص المدارس الجيدة، وتمنعهم القوانين من الإنتقال للمدن للتعلم.

حاول كثير من الآباء التحايل على تلك القوانين لدرجة وصلت لإدعاء الطلاق، وحتى إن نجحوا فى الإنتقال، لا يسمح لهم بدخول نفس المدارس، ويتم الفصل بينهم وبين أهل المدن فى الفصول والملاعب.

ولم يسلم أهل المدن من هذا الفساد، حيث يدفع الآباء رشاوى تقدر أحيانا بآلاف الدولارات فى صورة تبرعات، لضمان إلحاق أبنائهم بمدارس ذات سمعة جيدة.

توفر الدولة تعليما مجانيا إلى ما قبل المرحلة الثانوية، أما عن نفقات المرحلة الثانوية، فهى الأغلى على مستوى العالم، وبهذا يتخلى الفقراء عن إستكمال دراستهم فى كثير من الأحوال.

للالتحاق بالجامعة فى الصين قصة أخرى، فبعد إجتياز إختبارات الـ gaokao والتى تعادل الثانوية العامة، يخوض الطلبة إختبارات أخرى بالجامعة نفسها، ليعاني فيها الفقراء من غياب تكافؤ الفرص، بسبب الفجوة الكبيرة بين مدارسهم ومدارس الأغنياء، وهو ما ينعكس ليس فى آدائهم فقط، بل فى التحيز لأبناء الأثرياء، وأهل المدن (من مظاهر التمييز، عقد كبريات الجامعات إتفاقات مع المدارس المرموقة لقبول أعداد كبيرة من خريجيهم)، فانخفض عدد الريفيين بالجامعات من 40% عام 93 لـ 8% حاليا.

هناك تشابه إلى حد ما بين معاناة الطلبة المصريين والصينيين.. يتعاطى بعض الطلبة المنشطات ليتمكنوا من مذاكرة المناهج المتكدسة، كما سجلت الصين حالتى انتحارعام 2012 بسبب العجز عن آداء الواجبات المدرسية.

بشكل عام تتركز الخدمات وآثار التنمية فى المدن الصناعية، بينما يبقى الريفيون الذين يمثلون 44% من السكان بدون الحد الأدنى من الخدمات.

ولكل تلك الأسباب، تقتضى الموضوعية الإشادة بالنهضة الصناعية التى حققتها الصين، ولكنها بالقطع ليست دولة متقدمة، فلا قيمة للإنتاج إن لم يترجم فى صورة خدمات حقيقية للمواطن، وفرص متكافئة للتعليم والعلاج والإرتقاء بصفة عامة.

الإرتقاء فى الدول المتقدمة مرهون بالعلم والكفاءة، وبإمكان أى مواطن فيها أن ينتقل من الفقر للغنى، وأن يتقلد أعلى المناصب إن كان أهلا لها.. لا يحكم عليه بأن يظل فقيرا كما ولد.

في الدول المتقدمة لا يحرم 44% من السكان من الخدمات.. فى الدول المتقدمة الأولوية للمواطن، وبالتالى لا تنفق 107 مليار دولار على بناء السجون والمحاكم والأمن، بينما تضطر لرفع الاستثمار الأجنبي لسد العجز فى المستشفيات، ولا يوظف 50 ألف شخص لمراقبة الإنترنت، بينما يوجد عجز في الأطباء.

ببساطة لو كان للمزارع الصينى صوت إنتخابي حقيقي، لما اضطر لقطع ساقه المتعفنة بالمنشار، ولكان تمكن من محاكمة من تسببوا في تلك الجريمة غير الآدمية، ولو كان هناك برلمان فاعل قادر على مناقشة ميزانية الدولة بشفافية، لما سمحوا بإنفاق كل تلك المبالغ على تأمين النظام، بينما يعانى المواطنون من ارتفاع تكاليف المعيشة، ولو كانت جهات التحقيق مستقلة في الصين، لحققت فى أسباب ارتفاع معدلات السرطان بهذا الشكل.

بدأ نهوض أوروبا بنهضة صناعية، ولكنها كانت تسير جنبا إلى جنب مع تطبيق مبادئ العقد الاجتماعي، وهو ما وصل بهم إلى الحياة الكريمة التى يعيشونها حاليا، ولهذا يقتتل الناس للهجرة لأوروبا لا للصين.

كفانا مكابرة وقلبا للحقائق، فمن المستحيل تحقيق التقدم والوصول للحياة الكريمة بدون ديموقراطية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top