\”المال فى الغربة وطن، والفقر فى الوطن غربة\”، أستحضر تلك المقولة البليغة للإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه كلما مررت أمام أحد المطاعم السورية التى أسسها الإخوة النازحون من الجحيم، فرغم كل ما عاناه الإخوة السوريون نجح بعضهم عبر ما هربوه من أموال فى تأسيس وطن بديل، بينما يعجز المصريون عن توفير أدنى متطلبات الحياة فى وطنهم.
المذهل والمثير للإشمئزاز هو إستغلال إعلاميي السلطة لتلك المشروعات كدليل مزعوم على نطاعة وكسل الشباب المصرى، وكأن الدولة قدمت المحال والتسهيلات فأهملها المصريون وإستغلها السوريون!
نفس المنطق الذى دفع أحد الدعاة لتقديم حلقة موضوعها \”إنزل اتحرك واعمل فلوس\”، مستخدما الأدلة الشرعية على ضرورة محاربة الفقر لما يجلبه من إنحرفات وكيف أن عمر بن الخطاب خطب ذات يوم قائلا: \”من أراد أن يسأل عن الفرائض، فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه، فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتينى\”، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أسند قيادة الجيش لشاب فى الثامنة عشر، فـ ياللا اتلحلح بقى، وكأن كل ما يعانيه هذا الشاب من حرمان ليس دافعا له للحلحة إن إستطاع!
حينها سألت نفسي، أيهما يرضى الله أكثر، ترديد \”الحمد لله\” 10000 مرة بالمسبحة، أم تقدير ظروف الأقل حظا ومساعدتهم؟!
هو نفس المنطق العقيم الذى يتمسك به البعض ويمنحونه أحيانا غطاء دينيا، لوم الضحية على بؤسها كوسيلة لتخدير الضمير، وتابعناه فى أحقر صوره مع غرق مركب رشيد، رغم أن الدرس الأبرز من الثورة هو أن الإنسانية لا تُشترى، إلا أنه من واجبنا التذكير بالحقائق التى يتغافل عنها الجميع.. عن السؤال الوجودى: لماذا لم يبدأ شهداء لقمة العيش مشروعا بالمبلغ الذى خصصوه للهجرة؟
القليل من القراءة تؤكد أنه لا مجال فى بلادنا سوى للمشروعات العملاقة، أما عن المشروعات الصغيرة والمتوسطة التى تمثل طوق النجاة للشباب المجتهد الباحث عن فرصة وللاقتصاد بشكل عام (وتمثل أكثر من 50% اقتصاد أوروبا) والتى يمكن \”مجازا\” أن تندرج تحت بند المشروعات التى يمكن أن تبدأ بـ 30 ألف جنيه، هذه المشروعات لا تحظى بأى دعم من الدولة، فبينما اعتمدت كل من ألمانيا وفرنسا على سبيل المثال وقت الأزمة الاقتصادية العالمية على منح تسهيلات بنكية للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، فى مقابل تدريب وتشغيل الشباب، لا تمنح الدولة المصرية قروضا ميسرة، أو تقدم قاعدة بيانات لدعمهم، وليس ذلك فحسب، بل لا توجه أصحاب المشروعات الضخمة حتى بضرورة التركيز على إقامة مصانعهم فى المناطق الأكثر فقرا (عن طريق منح إمتيازات لمن يتجه فى هذا الإتجاه)
ورغم أن أحد العناصر التى تتضمنها الرأسمالية هى المسؤولية الاجتماعية، ولأن أغلب رجال الأعمال فى بلادنا حرامية غسيل وليسوا رأسماليين كما نعلم جميعا، فلا يعيرون المسؤولية الاجتماعية أي إهتمام ولا يقدمون أى دعم أو تدريب للشباب، ناهيكم عن خالد الذكر الرئيس المخلوع حسنى مبارك الذى تفرغ لخصخصة وبيع المصانع فى السنوات الأخيرة من حكمه.
ولأنى على ثقة أن أغلب منعدمي الإنسانية لا يهوون القراءة، فهناك إقتراح جيد بمتابعة برنامج \”الستات مايعرفوش يكذبوا\” لإدراك حجم الغارمين الذين يتم إلقاؤهم فى السجون سنويا بسبب مبالغ تافهة، وأن نسبة كبيرة منهم تعثروا بسبب مشروعات بدأوها هربا من الفقر.
-حتى شرعا- نسي الداعية السابق ذكره أن ما قاله الخليفة عمر رضى الله عنه دليل قاطع بضرورة إستشعار الحاكم بأن مسؤوليته الأولى اقتصادية فى الأساس لتوفير حياة كريمة للمواطنين، بينما الوعظ والتنظير والتوجيه هى مسؤولية آخرين وليست ضمن إختصاصاته، وأن أسامة بن زيد تولى قيادة الجيوش فى الثامنة عشر، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بصفته قائدا سياسيا للدولة إعتمد سياسة إسناد المسؤولية للأكفأ أيا كان عمره أو نسبه وليس لأن الشاب ملحلح فقط.
ألم يسمع هؤلاء بهرم ماسلو للحاجات، الذى درسناه كطلبة إعلام لتحليل تدرج إحتياجات الإنسان، وفيه قال إن الحاجات الفسيولوجية (طعام وشراب وتزاوج) مقدمة على الأمن، وبالتالى لا يلجأ الإنسان بداهة للمخاطرة بأمانه الشخصي إلا أن نفذت كل الوسائل للوصول لإحتياجاته الإنسانيه الأساسية، وهو وضع قاس وكئيب وفقا لمقاييس الإنسان السوي.
ختاما.. هناك جملة بليغة فى فيلم \”الطريق المسدود\” لسيدة الشاشة العربية: \”أنت وأمثالك لا تصنعوا الشر، ولكنكم من تساعدون على وجود الشر\”
فإن كانت أسباب مأساة الشباب المصرى واضحة لا تحتاج لعناء للوصول إليها وتفتيد أسبابها، فإن ما يحتاج للبحث بعناء حقا، هو كيف وصل كثير من المصريين لهذه الخسة والنطاعة؟! ولماذا يدافعون عن أوضاع ظالمة، هم أول من يكتوون بنارها؟!
الإجابة عن هذين السؤالين، هي أولى خطوات تعطيل ماكينة الظلم.