كانت مشاهد جثث الأطفال المضرجة بالدماء فظيعة لدرجة \”تشيّب\” حقا.. لدرجة دفعتنى إلى مقاومة الاكتئاب والعودة للكتابة رغم علمى أنى لن أغير شيئا للأسف.
بداية لابد من توصيف الوضع بدقة، ما يحدث الآن ليس استهدافا لوحدة المصريين الوطنية، فالإرهاب يضرب الضباط بصفتهم رمزا للدولة ولكنه يضرب من المدنيين المسيحيين فقط وهو قتل واضح على الهوية تطور من القتل، للترحيل من مدن كاملة لاستهداف حافلات الأطفال، وهو ما أعتبره إبادة بمعناها الحرفي.
نتحمل كمسلمين المسؤولية الأخلاقية عما يحدث لأننا نمثل الغالبية العظمى من المصريين وبالتالى فـ 99% على الأقل ممن يمتلكون آليات التغيير من مسؤولين ومشرعين مسلمون، كما أنه لم يكن هناك رئيس مؤمن مسيحى استعان بجماعة مسيحية متطرفة من باب الغتاتة على خصومه وعجز عن صرف العفريت. الشريحة الأكبر من المصريين لا تنتمى لأية جماعات دينية ولم يعبأ أحد باستطلاع اتجاهاتهم بشكل علمى ونشاهدهم فقط يبكون عقب الأعمال الإرهابية.
صدقوا دموعهم فهم يحزنون لقتل الأبرياء فعلا ولكنهم ليسوا متسامحين بالضرورة، فالناس فى بلادنا صارت تكره الآخر وخاصة فيما يتعلق بالعقيدة حتى وإن كان من أبناء نفس الديانة ولكنه يحمل وجهة نظر أخرى، ففى المجتمعات المتخلفة التى تخيب آمال أبنائها يتم التنفيس عن الإحباط بمكايدة الآخرين والمزايدة عليهم والدين أرض خصبة جدا لمثل تلك المزايدات السخيفة بين الجهلة، وكأن من عجزوا عن العيش بكرامة فى الدنيا يريدون إثبات ملكيتهم وحدهم للجنة كتعويض فى الآخرة، راجعوا النقاشات حول الحجاب مثلا أو الختان لتدركوا ما أقول، كذلك الهلع الدائر عقب توحيد المعمودية وجواز الترحم على غير الأرثوذكس وإلغاء خطبة عريس بأحد الكنائس لأن مخبرا بصورة مواطن أبلغ الكنيسة أنه شوهد بالكنيسة الإنجيلية
سنوات طويلة من متابعة قنوات الناس والرحمة. وأن أحمد الذى يؤمن بالله فى ماليزيا لابد وأن يكون أقرب لك من مايكل الذى لا يؤمن بالله فى مصر!
والسب للمسلمين ببرنامج محمد رحومة (مسلم سابق) عبر قناة النعمة دفعتنا للنظر للحياة من وجهة نظر مقيتة وضيقة.
بعد كل ذلك هناك حقيقتان تمثلان بداية الحل:
أولا: تلك الفئة المتشددة التى تشكل نسبة كبيرة من الناس ليسوا دمويين، هم أغبياء فقط، وبالتالى من الممكن بالتنوير والتعليم استعادتهم أو إصلاح الأجيال الجديدة على الأقل خاصة وأن تلك الحماقة ليست صفة أصيلة فى المصريين.
أما عن القتلة فيستندون عادة لنصوص محسوبة على السنة، إذ لا توجد بالقرآن الكريم آيات تحرض ضد المخالفين فى العقيدة وإن عبدوا الأصنام! بلى توجد آيات قتال ولكنه قتال مشروط ببدء الآخرين بالاعتداء بل وتم التشديد على التأكد من ذلك والتوقف عن القتال إن جنح الجيش الآخر للسلم فما بالنا بالعزّل؟\’ أما عن السنة فتوجد أحاديث كثيرة تحرم إيذاء أهل الكتاب وتأمر بحماية دور عبادتهم ولكن توجد أحاديث أخرى تحرض على العنف. وبما أن كثيرا من رواة الحديث عاشوا بعد وفاة الرسول بمئات الأعوام، فمن الواجب تنقية السنة مما يتنافى مع القرآن، بل حتى مع بقية السنة، وهى عملية جراحية ليست سهلة دعا إليها الإمام محمد عبده ولكنه للأسف خسر معركته، لماذا لا نستأنفها نحن الآن؟
هذا ما يقودنا للحقيقة الخطيرة التالية، وهى أن الإصلاح الدينى مستحيل بدون إصلاح سياسي، بعبارة أخرى لا بد أن يأتى ضمن توجه شامل للحداثة (والحداثة أعمق بكثير من التحسر على ملابس النساء بالستينيات) وهو ما حدث بأوروبا التى عانت من شتى أشكال التشدد الدينى أبرزها محاكم التفتيش ولم تتخلص منه إلا بالتحول السياسي للدولة المدنية القائمة على القانون والديموقراطية.
حتى الإمام محمد عبده وغيره من أصحاب الدعاوى التحررية ظهروا خلال مناخ سياسي تحررى تمثل فى الجهود لتحرير مصر من حكم الفرد وانتزاع حق الناس فى دستور وبرلمان ولم تكلل جهودهم بالنجاح الكامل لأن التحرر السياسي لم يتم وانتقلنا لشكل آخر من حكم الفرد \”جمهورية شكلية\”.
ليست التجارب التاريخية هى السند الوحيد لهذا الطرح بل المنطق أيضا، من الواضح جدا أن الأزهر يرفض التصحيح وهو أمر متوقع فمن المستحيل أن يتم إصلاح أية مؤسسة من الداخل لأنها ببساطة فسدت من الداخل، حتى وإن حذفت المناهج العنصرية بقرارات سيادية فالأفكار جيدة كانت أو هدامة لا تموت خاصة فى عصر وسائل التواصل الاجتماعى، ولا بد من عقليات مستنيرة ناقدة لمواجهتها ويبدو أنه لا نية لتطوير التعليم حتى الآن.
الدولة القائمة على القانون هى الضمان الوحيد للقضاء على كافة أشكال التمييز، فقوتك فيها كمواطن تستمد من كونك دافع ضرائب وناخب ولا شئ يسلبك تلك القوة حتى وإن كنت ملحدا، وهى الضمان الوحيد لعقاب المجرم دون طبطبة عرفية
ذلك هو الطرح الوحيد الذى سيوقف النزيف ويقودنا للتقدم بكافة أشكاله، وتألمت كثيرا عندما تناقشت مع زملاء مسيحيين فوصفوه بـ\”اللغوشة\” على حقيقة أن الإسلام ذاته دين عنف فعلا، تفهمت هذا الغضب والتجاوز لأنى لا أتخيل كيف كانت حياتى لتكون إن ذهبت لصلاة العيد كل عام أترقب قنبلة هنا أو هناك، ولكن كان إحباطى نابعا من أن هذا التفكير القاصر \”العبيط \” للمصريين بكافة دياناتهم فى مختلف الموضوعات يؤكد أن الفشل سيظل مصيرنا للأبد.
التغيير السياسي باهظ التكلفة وملئ بالمخاطر وطويل الأمد، كما أنه بعيد المنال جدا الآن، وبما أن المجتمع استمر بخذلاننا بعد الثورة وبما أن عددا من أصدقائى بالسجن الآن، لم أعد أقوى حتى على المناداة به لأنى عجزت قبل الأوان، كل ما أتمناه أن ندرك أن الهمجية سهلة والتعميم سهل ولكنهما غير مجديين، وأن لكل إصلاح حقيقي ثمن حقيقي يتجاوز البوستات النارية الساخرة من عبارة إن الإرهاب لا يعبر عن الإسلام عبر الفيس بوك، لا لأنها تغضبنا فقط، لكن لأنها معركة مع الطرف الخطأ ولأنه ليس من حقنا أن نحلم بحياة الدول المتقدمة ما لم ننتخب مثلهم إنتخابات حقيقية دون كومبارسات وردح ورقص.
ربما تحقق الأجيال القادمة تلك الأحلام.
حتى هذا الحين خالص إعتذارى للملائكة الذين حلقوا للجنة أمس، فقد دفعتم ثمن حماقتنا جميعا.