مروة أبو دقة تكتب: تقاطع الأربعين

ها أنا اخطو خطوتي الأخيرة لأدخل عالم الأربعين، وتستحضرني – يوميا- صورة أمي التي شكلتني وأنجبتني في مثل هذا العمر، لأكون الابنة السادسة والبنت رقم 5، لتتوقف عن إنجاب البنات من بعدي.

يجمعني بأمي الكثير.. حبي الدائم لرقم 5 وتفاؤلي به، والسنوات الأربعون التي تشكل عدد سنوات عمري والسنوات التي أتمنى أن أعيشها، لأكون في عمرها الآن.. نصف ما أحمل من قصص وحكايات في ذاكرتي لسنين عمرها الأربعين التي عاشتها قبل أن تنجبني ورائحة وطعم الطبيخ الذي أطبخه.. كلماتي التي ارددها غاضبة من ابنتي عندما افقد قدرتي على التحكم بأعصابي.. رائحتها التي ابحث عنها في ملابسها، لألملم ما تحمله ذاكرتي من مقومات الإحساس بالأمان، ورائحتي التي تبحث عنها ابنتي في خزانة ملابسي عندما أسافر لأيام وأتركها في المنزل.

بدأت افكر كطفلة: كيف لي أن احتفظ برائحة أمي لتبقى معي ما حييت.. خطر ببالي أن آخذ بعض ملابسها في أول فرصة اتمكن من لقائها، ولكن هل ستحتفظ الملابس برائحتها لسنوات – في حال إن أراد القدر أن تمتد حياتي لاعيش عمرا يقارب عمرها؟- لم تقنعني الفكرة واستمر القلق والحنين لرائحتها، حتى استطعت استحضارالرائحة وتعبق أنفي بها رغم أني وأمي ولعامين، لم نلتق، وتفرقنا مئات الكيلو مترات وعشرات الحواجز والأسوار.

لم تتح لي أمي فرصة الاستمتاع بالأحضان الحنونة، لكن دون إخوتي أتيح لي أن أعيش طفلة ومراهقة وشابة راشدة ملتصقة بها.. متتبعة خطواتها من غرفتها للمطبخ لحديقة المنزل.. مستمعة لهمساتها وهي تتلو التشهد في صلاتها، كما أني عرفت أن جلوسها إلى جانبي وتركيز عينيها علي وإمساكها يدي لساعات طويلة في ليلة، لم يغفل لها جفن فيها ولا لي، منع الموت القابع في ركن غرفة المستشفى من أن يقترب ويختطفني منها.

هي امرأة ذات عقل راجح، يحكم تصرفاتها المنطق دوما.. أنجبتنا وربتنا.. خمسة بنات وولدين مسئولة بالكامل عن كل تفصيلة من تفاصيل شخصياتنا المختلفة والمتفردة، أما أبي، فهو طفلها الكبير الذي ترى أنه لا يشبهها، والذي يعترض – دوما – على تفكيرها وعلى اختياراتها، لكن من دون أن يشعر كلاهما.. هو طفلها الكبير الذي لا يشبهها، وأكثرنا تنازلا وتضحية – إن لم يكن الوحيد- الذي يبذل كل طاقته لإرضائها.

أنا وأخوتي، لكل منا حياته المستقلة في أماكن، وبتجارب مختلفة.. يربطنا حنيننا الدائم لمنزلنا، وأشجار برتقالنا وزيتوننا وشتلات زعتر أمي الموزعة بعناية، وفرن الحطب القابع بجوار المنزل، وضحكة أبي، وعينيه التي تدمع فرحان حين يرانا مستقبلا عودتنا وعودة أطفالنا.

ويجمعنا حب أمي لكل منا بطريقتها الخاصة.

عندما كنت في العاشرة من عمري، سألني أحد أقراني باستغراب: لماذا تحبين أخوتك الكبار وأنت لم تعيشي أو تتربي معهم؟ فكرت بسرعة وقلت له: \”لأن ماما بتحبهم\”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top