محمود نجيب يكتب: لماذا لا تتوقف الحياة مع موت من نحب؟

 

لم أقرأ كثير عن تجربة الاقتراب من الموت ولكنها أثارت فضولى بعض الشئ. فما كتب عن تجربة الاقتراب من الموت أنها ظاهرة تحدث لمن تعرضوا لحوادث كادت تودي بحياتهم قد مروا بأحداث وأماكن مختلفة منهم من وصفها بالطيبة والجميلة ومنهم من وصفها بالشر والعذاب. من أكثر التشابهات التي رويت في تلك الحوادث مرور الشخص بنفق إما أبيض وإما مظلم حتى يصل إلى نور أبيض. لا يوجد تفسير علمي للظاهرة ولكن بعض العلماء حاول تفسيرها على أن العقل الباطن هو من يفتعل تلك الأحداث وتلك الأماكن لتسهيل عملية الموت.
ما يحدث النمط التقليدي لتجارب الاقتراب من الموت، بعملية خروج للجسد الأثيري من الجسم الفيزيائي، بعد ذلك تبدأ عملية اجتياز لنفق مظلم في نهايته نور ساطع، ويخّيل لصاحبه أنه في الجنة حيث يلتقي بأحبائه من الموتى؛ فيرغب في البقاء كارها العودة إلى جسمه المادي، لكنه يسمع صوتا ما أو يخبره أحد أحبائه الموتى أن عليه العودة؛ وأن ساعته لم تحن بعد، أو لا يزال هناك الكثير من المهام التي يجب عليه القيام بها.
يخبرنا الدكتور فان بيم لوميل أن الطابع الموضوعي لهذه التجارب وتضمنها لعناصر ثابتة معينة تجاوزت حالة الهوية والثقافة الفردية والعوامل الدينية وأصبحت في نمطية تكاد تكون واحدة في جميع التجارب لمختلف الثقافات والأديان، وهذا يؤكد أن هذه التجارب نوع من القابلية الموجودة في النفس الإنسانية.
يقال أيضا عن هذه التجربة إن الرأي السائد الذي يتفق عليه جميع الباحثين المؤمنين تقريبا بظاهرة تجارب الاقتراب من الموت، على أنها ولوج إلى عالم من الوعي الإنساني ندخله جميعا بعد أن نغادر العالم المادي في حالة الموت، كما أنه العالم الذي ندخله عندما نكون في حالة اللاوعي ونعود إليه للاستكشاف كما يحدث أثناء النوم. من الناحية الطبيعية لا يستطيع البشر الأحياء مغادرة العالم المادي للاستكشاف، أنهم يستطيعون فقط تعلم التركيز على ما وراءه، أما المشككين فى صدق هذه التجارب قالو إن هذا الأمر هلوسة أو أضغاث أحلام.
لكن دعنى أحدثك عن ما هو أعمق من التجارب. عن ما هو أكثر واقعية منها. عن الموت حقا.
مؤخرا انتشر موت الفجأة بشكل غير طبيعى لدرجة أننى اعتدت على مثل هذه الأخبار كل يوم وأخشى أن أستيقظ من نومى كى لا تتسع حدقة عيناى مجددا واستمر فى تقبل الصدمات لأجد رجلا جلس بجانبى أمس لم يعد بيننا مجددا. العواصف لم يعد يسبقها هدوء. صارت متتالية ومخيفة أكثر مما نتخيل، بدءا من الوجود حتى الممات مرورا بما ليس لنا وما ملكنا دون قصد. حينما تنفذ العواصف بأسرها فهناك الهدوء اللانهائى.
لكن لماذا لا تتوقف الحياة مع موت من نحب؟
لماذا تستمر أنفاسنا في لحظات كَرهنا فيها وجود الهواء وتمنينا لو أصابنا الموت بدلا منهم؟ لكننا نستيقظ من نومنا وحزننا كل مرة لنجد الكل يمارس يومه بشكل طبيعي. الكل يذهب إلى عمله ودراسته وبيته وزوجته بينما أنت تستقر بين دمعتيك وتود حينها أن يصيبك فقدان الذاكرة أو شئ ما. لتمر الأيام تباعا ولا يكترث بمن رحل إلا أنت وحسب. لأن هذه هي الدنيا. لا شئ يتوقف حينما تريد ولا شئ يستمر إذا أردت. ولكن ماذا عن الدعاء وتلاقى الأرواح؟ هل يشعر الأموات بالأحياء عندما يزوروهم؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \”ما من رجل يزرو قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم\” أورد ابن القيم أيضا أن الأموات تصلهم أخبار أقربائهم الأحياء، فالأرواح نوعين: أرواح معذبة وأرواح منعمة. المعذبة منشغلة بالعذاب عن التزاور والتلاقي، أما المنعمة تتلاقى مع بعضها البعض وتتذاكر أمور الدنيا. وأورد ابن القيم أن الأموات والأحياء يلتقون فى المنام وذكر قصة حدثت بين عوف بن مالك وصاحبه الصعب بن جثامة وكانا صديقين متآخين وتعاهدا أن من يموت أولا إن استطاع أن يأتي للآخر فى المنام فليفعل. مات الصعب قبل عوف وجاءه فى المنام فسأله عوف: ماذا حل بك؟ رد عليه الصعب قائلا: غفر الله لى الحمد لله. فرأى عوف فى رقبته بقعة سوداء فقال: ما هذه؟ فقال الصعب: هى عشر دنانير استلفتها من فلان اليهودى وستجد المبلغ فى جعبة فى كيس فى منزلى واعلم يا أخى أنه لم يحدث فى أهلى شئ إلا وجاءنى خبره حتى إن هرة لنا ماتت منذ أيام.

استيقظ عوف متعجبا فذهب إلى بيت أهل صديقه فوجد كيس فيه العشر دنانير فى المكان الذى ذكره له الصعب ثم ذهب إلى اليهودى وسأله أكان لك دين على صعب؟ قال نعم فقد سلفته عشر دنانير، فأعطاه عوف إياها ثم رجع لأهل جثامة وقال لهم هل حدث فيكم شئ منذ أيام؟ قالوا: نعم هرة كانت عندنا فماتت. فتعجب عوف من دقة هذه الأخبار التى أخبره إياها صعب بن جثامة فى منامه رغم موته! ذكر ابن القيم أيضا أن أي عمل صالح أو عباده يمكن أن تهديها إلى روح شخص ميت فى قبره. فرحم الله كل من فقدناهم وكل نفس ذهبت لخالقها. ربما اتصالنا بمن فقدنا يهّون علينا قسوة الحياة من دونهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top