ذات مرة أصبت بنزلة برد فى السادسة من عمرى ولكن لا أعلم لماذا أصررت على الذهاب الى المدرسة حينها. كنا فى رمضان ولا اعلم من أين أتى هذا الطفل بهذه الحماسة التى جعلته يذهب إلى المدرسة صائما مريضا! أخبرتنى أمى أن علىّ ألا أصوم هذا اليوم ولكنى رفضت. رفضت بشدة. فأعطتنى البسكويت فى حقيبتى الممزقة هذه مخبرة أياى أن البسكويت ليس من المفطرات لطفل مثلى. فرحت كثيرا وصدقت ذلك وتم خداعى بكل أريحية دون مجهود يذكر. وعن اقتناع شديد أكلته أمام أصدقائى الذين يتظاهرون بأنهم صائمين أيضا لأننا رجال أشداء بحركات أيادينا وألسننا التى تثبت صحة صيامنا. تعجب صديقى فقلت له بكل ثقة: إن بسكويت الكراون والشمعدان مباح لمن هم فى سننا فى صيامنا أيها الغبى.
وعندما عدت إلى بيتى علمت أننى بذلك قد أفطرت وأننى لم أعد صائما فى هذا اليوم. مرت الأيام تباعا ولكنى مازلت أتذكر ذلك لأعلم أنى مندفع فى تصديق الأشياء منذ صغرى.
فى الفترة الأخيرة ومع ظهور المصادر وتعددها بدأنا جميعا نشك فى كل ما قيل لنا. فى كل قصة أخبرونا بها. فى كل حدث تاريخى بمسمياته. صرنا نؤمن بأنه لا شئ صادق تماما مئة فى المئة واحتمال أن يكون أكذوبة هو احتمال شروق الشمس من المشرق.
يحدثنى صديقى منذ يومين عن كذبة نيل أرمسترونج وخدعة أمريكا فى الصعود إلى القمر لتقوم شركة فوكس بإنتاج فيلم وثائقى تحت عنوان نظرية المؤامرة: هل هبطنا على القمر فعلا؟ تحدث فيه علماء أمريكيون من مجالات مختلفة كما ضم متحدثًا واحدًا من وكالة \”ناسا\” لإضفاء الموضوعية على الفيلم.
بعض العلماء الأمريكيين على قناعة تامة بأن ما حدث في حزيران عام 1969 مجرد فيلم أمريكي باهظ التكاليف أنتج وأخرج برعاية وكالة \”ناسا\” التي كانت تهدف من ورائه إلى إقناع الاتحاد السوفيتي بتفوّق الولايات المتحدة في مجال الفضاء مما يتيح للأخيرة التفوق العسكري في حال حدوث حرب بين الدولتين.
يقول كارل ماركس إن التاريخ يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة. وإن كنت أراها بشكل أدق أن تزوير التاريخ فى المرة الأولى يعد مأساة وفى الثانية كمهزلة.
بالتأكيد لم أشهد هزيمة عدو ولا اغتيال حاكم ولم أشارك في بناء تمثال. ولكن كل شئ قابل للتأويل أو التحريف. ولكن إن كانت مقولة ماركس حقا فسوف ندع أولادنا وأحفادنا يروون ما حدث لنا سابقا إلىأن يكتشفوا صدق ما لم يقال وكذب ما درسوه. فأنا بعين درست حضارة القدماء وعصور الازدهار وبالأخرى رأيت التكالب على السلطات.. بعين قد رأيت عهود العولمة وبالأخرى رأيت العجز والجهل.. بعين قد رأيت وبالأخرى لم أعد أرى شيئا.
فى الواقع ليست أوطاننا فحسب التى تمارس هذه العملية ولكن العالم بأكمله لكننا رأينا بعين وبالأخرى لم نعد نرى الكثير.
الحقيقة أننا لا نعرف حقيقة كثير من الأمور وهناك أحداث كاملة مفقودة من التاريخ لا نعرف عنها شيئا. يذكرنى ذلك بحديث جورج أورويل فى رواية 1984 بقول شخصية ونستون إن الماضى ابتدأ من الأمس قد محوه محوا تاما؟ وحتى إذا كان له وجود فقد يكون أشياء قليلة مصمتة لا كلمات عليها مثل ذلك الثقل الزجاجى. إننا لا نكاد نعرف شيئا محددا عن الثورة والسنوات التى سبقتها فكل السجلات تم اتلافها أو تحريفها. وكل كتاب أعيدت كتابته وكل صورة أعيد رسمها واسم كل تمثال وشارع وبناية جرى استبداله وكل تاريخ جرى تحريفه وما زالت هذه العملية متواصلة يوما بيوم ودقيقة بدقيقة. لقد وصلنا إلى نهاية التاريخ. وانتفت صفة الوجود عن كل شئ عدا الحاضر الذى لا نهاية له والذى ينطق بأن الحزب دائما على حق. إننى أعلم بالطبع أن الماضى يزيف ولكن لن يكون باستطاعتي إطلاقا أن آتى ببرهان على ذلك حتى لو كنت أنا الذى قمت بالتزييف. فبمجرد الانتهاء من التزييف يتم إحراق كل دليل حى. والدليل الوحيد هو ذلك الذى يبقى داخل عقلى ولا أعرف يقينا إن كان هنالك إنسان آخر يشاركنى فى ما أحمل فى ذاكرتى أم لا وطوال حياتى لم أعثر على دليل مادى وملموس إلا مرة واحدة وبعد أن كان الحدث قد مضى عليه سنوات. وبهذا يصبح التاريخ عبارة عن لوح ممسوح، يعاد نقشه كلما كان ذلك ضروريًا. كل شيء قد تلاشى، في عالم مضلل، أصبح فيه حتى تاريخ السنة عرضة للشك.
لقد مضينا أوقات كافية ولم نثبت بعد أن الأطباء يكذبون أكثر من المرضى وأن المبانى الآيلة للسقوط تزال بعد موت قاطنيها وأن المجرمين تحتويهم أماكن أكثر فسادا وأن الأشياء ليست كما تبدو دائما وأن نسبة تكذيب الأحداث أكثر من نسبة تصديقها. ولكن دعنى أخبرك أنى أكلت الشمعدان بكل ثقة وعن طيب خاطر ولا أدرى إن كنت سأهديه لأبنائى مؤقتا أم لا.