فى فترات ما قبل الثورة وأوقاتها، لم أكن ملما تماما بمواقع التواصل الاجتماعى، إلى أن زاد عدد المستخدمين بعدها وأصبحت واحدا منهم.
الحقيقة أنها صارت عادة يومية لمعظمنا باختلاف مدة قضاء الوقت عليها. لكن ما آثار فضولى مؤخرا هو ما نتج عنها ولا أدرى إن كان حدسي صادقا أم لا.
محاولات الاختلاف الجاهدة حتى يصير الكل مميزا بشكل أو بآخر. مميز فى كل شئ وفى أى شئ. فى زاوية الصور التى يضعها حتى يصير مميزا عن البقية. فى الموسيقى الحديثة التى يسمعها مؤخرا ليصير مميزا عن البقية، نوعية الأكلات الجديدة حتى يصير مميزا عن البقية، الثياب التى يرتديها حتى يصير مميزا عن البقية. فى اهتماماته بالأفلام المختلفة والمباريات المختلفة والروايات المختلفة ووجهات نظره المختلفة وفى كل تفصيلة من حياته حتى يصير مميزا كليا.
الحقيقة أرى أنه لا عيب فى ذلك ولا خطأ طالما كانت الاهتمامات تروقنا حقا ونستمتع بها، ليس أننا نتظاهر بأننا نحبها حتى يطلق علينا لفظة \”مختلفين\”. وهذه هى المشكلة التى تواجهها نسبة لا بأس بها من أفراد جيلنا وهى التظاهر بالاختلاف. إنهم عاجزون بعض الشئ أن يكونو متميزين حقا تحت لوحة مفاتيح فريدة من نوعها وشاشة ليس لها مثيل، فنرى أنفسنا أمام أمراض الادعاء والتظاهر التي لا نهاية لها. لنجد فردا يتظاهر أنه يحب فرقة موسيقية لا يطيق سماعها ويتظاهر بأنه يحب مسلسلا لم يشاهده قط ويتظاهر أنه غير مهتم بأشياء يهتم بها الجميع. يتظاهر أنه مميز بتحويله اهتمامات العامة إلى حماقات بالمعنى الصريح. الأمر أشبه بوضع ضمادة على سرطان فى مرحلة متأخرة. هو استثنائى فى التظاهر وخالي الوفاض فى حقيقة الأمر.
ربما يدور برأسك الآن تساؤل عن الأشياء الصادقة حقا التى تنبع من عقل كاتبها ومن مشاعره الحقيقية. لا خلاف فى هذه الأشياء بالتأكيد، ولكني أتحدث عن المتظاهرين.
ما أراه فى فئة المميزين هذه أنهم يواجهون معضلة حقيقية تنغص عليهم حياتهم لأنه لم يعد يدرك ماذا يحب وماذا يكره ومتى يفرح ومتى يحزن. يصبح جافا باهتا إلى أقصى حد، ينتظر آراء الغير حتى يخالفها أو يوافقها أو يضفي عليها شيئا ما. أرى أن التظاهر بالاختلاف لمجرد لفت الأنظار والادعاء بأشياء لاستجداء التعاطف والاهتمام هى مشكلة كبرى جلبتها السوشيال ميديا وليس حرية تلقائية. أن تزعم أنك شخص ليس له وجود، فهو ظلم لشخصك الحقيقى الذى طُبعت عليه.
لكن دعك من المتظاهرين قليلا. ففى الفترة الأخير وجدت المميزين حقا والمتظاهرين بالتميز. أى أن الكل صار استثنائيا أو فى طريقه، يحاول أو على الأقل يتظاهر بكونه فريدا. أجد نفسى بجوارهم شخصا تقليديا ليس به شيء مثير للإعجاب يتذكرونه إذا أتى وينسونه مع غيابه. بسيط ونمطى يقرأ عن نظريات الامتزاز وأسباب الالحاد واعدام روبسبير وبطش النازيين والدروس المستفادة من غزوة بنى قينقاع. يعرف تجارب أرشميدس وحروف القلقلة ويبحث عن روايات هارى بوتر ومواقيت الصلاة فى جزر المالديف.
فى صغري، لم أتوقع عدة أرقام متراصة لأضيف رصيدا فى خطي المفلس دون أن أخدش الكارت ولم أتوقع أى فريق سيصل لنصف النهائى ولم أتوقع أحداث الحلقة الأخيرة من مسلسلى المفضل، فأنا لم ابتكر دواء ولم أكتشف كوكبا ولم أضع نظرية فى علم الرياضيات. عادي لدرجة أنى صرت غير عادى. ليس لى مكان وسط الاستثنائيين المختلفين. فرص بساطة أن تصبح شخصا عاديا صارت منعدمة. إن كان كأس التميز جائزة فعلية، فهى تذهب للأشخاص التقليدين لأن البقية صاروا مميزين. كلنا صرنا استثنائيين أو نظن أننا استثنائيين أو ندعى كذبا كوننا كذلك.