عادةً.. لا تنصفنا الحياة ونشعر بأن حظوظنا قليلة جدا في البقاء، وكأن ثقل المكان ضغط على رؤوسنا ثم أرواحنا، تغار الدنيا وتغضب من كل ذي شأن أوتي شيئا ما. لن تتركه هكذا؛ ستضع أمامه كل ما استطاعت حتى تنغص عليه أيامه لتجبرها على السير بالحركة البطيئة القاتلة حتى يمل صاحب الأمر في النهاية.
كنت أريد الجلوس في المنتصف دائما إذا خرجت في مجلس مع أصدقائي، وإذا طلب من جماعة أن تبدي رأيها، أردت أن أكون ثالث من يتحدث، وإذا مشيت وسط جنازة فأنا لست من المتذيلين ولا المتصدرين، لكن دعني أخبرك أنني لم أتمكن من شئ يوما وأنني لست من المتأكدين الواثقين دوما.
في صغري لم أتميز في موهبة أحبها ولم أكن أذكى الطلاب وأدهاهم ولم أكن أمهر لاعب في الساحة، لم أكن رقم واحد في شئ ولا حتى أوقات اللهو العادية.
صحيح أن بإمكاني أن أكون ثاني الترتيب أو ثالثا في أحدهم، لكني لم أصل لقمة في شئ بعينه، لأدرك أن جميعنا نسير وراء أكثرهم تأكدا وأكثرهم تمكنا وثقة، ثم أترك مساحات لأوقات العجز بينما تحيطني دوائر النقصان والقلق لتخبرني أني لست متمكنا تماما في شئ ولا حتى في كتابة هذه الكلمات. لست متمكنا. ليس كما تمنيت.
عادة لا تنصفنا الحياة في اختياراتنا. ولا تأتينا بالإحسان إن أحسنا إليها. في لحظة أملك الدنيا وما بها. وفي الأخرى أبحث عن مضيق للاختباء.
افتقدت يوما ظننت أنى فيه قريب للمثالية. ثم فقدت أياما لأتذكر كم كنت قريبا. اشتريت الكثير من الورود وقمت بإزالة الغبار من المكان ثم رميتها. توقفت فى منتصف الطريق تائها لم أواصل ولم أصل ولم يصل من سبقنى. نظرت بنصف عين إلى السماء وبالأخرى رأيت الشجر غاضبا. التقيت برجل أخبرنى أنه يراني يوميا على عجلة من أمرى فى صباح كل يوم. استدرت لأكمل حديثى معه فلم أجده. فانضممت إلى أصدقائى. أتظاهر باستكمال حديثى معهم وضحكت بصوت عالٍ على نكتة لم أسمعها جيدا.
مازلت أخجل من أمى حينما أنكر شيئا قد حدث بالفعل وهى بكل سهولة تعلم بمجرد النظر؛ تعطينى ما تبقى من ابتسامتها بعد معرفتها شيئا مهما حاولت اخفاءه. أسير بما تبقى من ابتسامتها. ألقى طفلا صغير خاف من والده. وفتاة تلعن صديقتها سرا. أعطى ابتسامتى لسيدة عجوز بحاجب أبيض تحت أضواء صفراء خافتة. هناك مرض مزمن سيصيبنى بعد عشرة سنوات. أشتاق إليه وأسبه بداخلى. أعود وأنظر بنصف عين إلى السماء من جديد ثم أرى الشجر غاضبا. لست مثاليا ولست مميزا. ليس كما تمنيت.
مضيت ثم ألقيت بأمنياتى إلى الفضاء. أردت صدفة وأقدارا. أردت ابتسامة لا تتعدى ثانيتين أذكرها لشهور.
أجمل الأهداف التى رأيتها لم يكن يقصدها اللاعب بهذه الدقة ولكنه سددها فى المرمى. رأيت لوحة فنية نزلت من السماوات أخبرنى من رسمها ذات يوم أنها كانت شخبطة تلقائية أثناء تفكيره فى مرتب الشهر القادم. أعظم المشاهد السينمائية التى رأيتها لم تعاد مرتين أثناء تصويرها. الفتاة التى غنت على المسرح دون ترتيب مسبق كانت الأكثر تألقا بأداء لم تشهده من قبل. أعظم الألحان أتت صدفة وأجمل معانى الأشعار أتت بعفوية. وأفضل ما قرأت كان دون عمد. الفتاة التى رأيتها فى سيارة سوداء وقت الازدحام كانت أجمل فتاة رأيتها. أردت صدفة. وأردت قدرا. أردت شيئا يبقى بذهني حتى أذكره ولو لمرة ليكسر تتابع كثرة ما لقيت من سوء الحظ. مازلت فى انتظار صدفة ما لأنى سئ الحظ. ليس كما تمنيت.
Top of Form. عادة لا تنصفنا الحياة إلا في أيام معدودات. وكأنها تسهو قليلا عن مهمتها الأساسية وهي أن تعرقلك بشتى الطرق سواء كنت سيد القوم أو خادمهم. هي لا تستطيع التفرقة. فقط تستمر في وضع الحواجز بشكل عشوائي في كل يوم. من منكم سيمر غير مدمر؟
لم أفقد الشغف فحسب. لكنى صرت متكاسلا إلى أقصى حد. متكاسل عن إبداء مشاعرى بالإيجاب أو بالسلب. متكاسل حتى عن رؤية سخافات اعتدت عليها مسبقا. متكاسل عن مشاهدة الأفلام التى أحب والأشياء التى اعتدت على قراءتها. أصبحت لا أكمل عشرة دقائق فى مشاهدة فريقى المفضل. صرت متكاسلا عن أقل الأشياء وأصغرها. لم أعد أكمل ما بدأت وإن كان هينا، لم أعد أواصل شيئا إلى نهايته لأنى قد سئمت بدايته ونهايته. متكاسل حتى عن تكملة هذا الحديث الذى تقرأ ولا أدرى إن كنت أنت أيضا قد قرأته كاملا أم صرت متكاسلا مثلى؟ لست شغوفا. ليس كما تمنيت.
أضيف نقصانى إلى نقصان المكان وأضحك بأصوات عالية تشعرني بالأمان لبضع دقائق. ثم أدرك أنى لست متمكنا ولست مميزا ولست شغوفا إضافة إلى أنى سئ الحظ.
تدريجيا، بدأت أرضى بأقل الأشياء بعدما كنت أرغب فى أكثرها كمالا. تقل مستويات الرغبة وتزيد قناعة العجز شيئا فشيئا لأجد نفسى سعيدا أمام أكثر الأشياء الهشة، متعلقا بأقلها بهجة حتى أتنسم قليلا مما يكفينى وأعود مجددا إلى كتم الأنفاس ثم أتذكر أننى تركت ما أردت يوما ما وأن الحياة عادة لا تنصفنا. ليس كما تمنيت.
عادةً لا تنصفنا الحياة لأن هذا ما طبعت عليه. وأنت فقط ما أنت عليه. عادةً ما يكون مجيئك للحياة غير منصف من الأساس وهذا هو رد الدنيا.
Top of Form
Top of Form
Top of Form