محمود نجيب يكتب: انحدار

\"\"

أرى فى عينيك كثيرا من الشفقة الآن عندما أخبرك أنى أقرأ يوميا الكثير من الكلام المنتشر على الجروبات الطبية.. بل إن الشفقة الأشد هى كونى عضوا فيها من الأساس. لكن دعنا نتحدث بشكل أكثر منطقية أو لامنطقية.. لن يختلف الوضع كثيرا.
فى فترات مختلفة من اليوم تقع عينى إما على كوارث متعددة تتعلق بمستقبل الصيادلة تحديدا أو أخطاء مهنية غير أخلاقية أو سخرية من الأوضاع بشكل عشوائى يحزنك شخصيا حتى ولو لم تكن لك علاقة بالأمر، فماذا لو كنت طالبا تدرس أو شغوفا بمجال الدواء أو غير ذلك؟
ارتفاع سعر الأدوية كل فترة لا تتعدى ثلاثة أشهر.. إغلاق كثير من الصيدليات لأنها أصبحت عبئا ثقيلا على أصحابها بسبب الخسارة.. إلغاء تكليف الخريجين أو إشاعة هذا الخبر المتكرر أو تكليف نصف الخريجين أو ما شابه.. قلة فرص العمل بالشركات.. مساواة مرتبات الأسيستانت بالصيدلي تقريبا فى السلاسل.. نقص الكثير من الأدوية.. إضافة إلى تطاولات عدة من الدخيلين والمتطفلين والتى أدت إلى انحدار مستوى المهنة في المطلق.. إذن توجب علينا أن نسأل لماذا كل هذا؟
المهنة التى كان يتم تشجيع الطلاب على دخولها سابقا فى الثمانينيات صاروا ينفرون منها قدر الإمكان، ثم اندثرت الأخلاقيات تدريجيا مع الزمن، وكأننا شيدنا بناء ضخما ثم انهار وتفتت إلى أجزاء.
المضحك والمحزن معا فى الأمر أنى لا أدرى على من نلقي اللوم؟ لكنى وجدت عاملا مشتركا فى النهاية، فأنا لن أخص تقصير أصحاب المناصب بالذكر ولن أخص تخاذل كبار المهنة بالذكر ولن أخص سوء الحال العام للبلد بالذكر ولن أخص جشع الكثيرين الذى باء عليهم بتهديدهم بالذكر.. لن أخص كل منهم على انفراد حتى وان كانت أسباب لا نغفل عنها، ولكنها تركيبة من كل منهم عبر السنين نمت معا جنبا الى جنب.. لن نستطيع إغفال ضلع منها ولن نستطيع أن نخص أحدها بالذكر دون الآخر.. إضافة إلى تقصير أنفسنا بالطبيعة.. ثم تتراكم وتثبت بالقوة الجاذبية للخطأ الى أن نجد أنفسنا ضحايا فحسب.
أنا الآن أتهيأ لكتابة الاسباب والحلول.. أنا الآن متعمق تماما فى التفكير وإيجاد الأضلاع الخفية.. أنا الآن أقرأ حلا قد كتب بكل حماس عن كتابة المادة الفعالة فى الروشتات من قبل الأطباء وأن الصيدلى هو الخبير الأول للدواء ومن ثم يقوم بتحديد ما يناسب المريض.. من ورائى شخص يتحدث \”ما كله زى الزفت مش مجالك بس\”.. ومن أمامى يأتينى آخر \”يا ابنى ما هى ماشية بالزق من زمان فى كله.. أنت جاى على دي\”، وآخر فى رأسى \”السفر هو أكثر الحلول أمانا\” ثم أسير لأجد كلمة قد كتبت على ظهر توكتوك رأيته بشارعنا \”كله بالحب\”.. إلى أن أقتنع بها كليا ثم أصمت.
ثم أفكر فى أننا جميعا دون تمييز نصير عبئا على العالم.. نحن مقسمون إلى قسمين.. قسم يتمنى الهجرة خارج البلاد والآخر مهاجرون حقا.. كيف ينظرون إلينا من الخارج؟ أم أننا لسنا فى مرأى نظرهم من الأساس؟ هل نحن حقا لا نستطيع ولسنا أهلا لهذا المكان؟ هل سنأتى بآخرين غيرنا ليصيروا عبئا على مناطق مختلفة من العالم أيضا؟
كلما تساءلت أو بادرت بالتفكير فى شئ ما هنا، ينتهى بى الأمر إلى حالة من العجز.. نحن ضحايا السابقين وزلات الآخرين.. ورثنا قدرا كبيرا من النقصان فاق طاقتنا وضغط على صدورنا إلى أن أصبحنا تائهين ننتظر تائهين جدد أمثالنا.. نحن ضحايا وزلات أنفسنا أيضا.. نحن لسنا خارج دائرة الخطأ، بل نحن بداخله بالضرورة.. هل تنتظر منى كتابة حلول لا تنفذ فى النهاية أم دعاء ومعجزة لتحسين وضع مهنة الصيدلى ومن يزايدون عليها ومن يزايد على سوء الوضع؟
أرى فى عينيك شفقة مضاعفة حاليا.. وهكذا أنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top